ملفّ القاضي المكّي بن عمّار : أين الحقيقة ؟

هذه هي صورة القاضي المعزول المكّي بن عمّار أثناء اطلاق سراحه من سجن برج العامري والذي أشعلت قصّته مواقع التواصل الاجتماعي أسالت حبر المدوّنين والمتعاطفين معه. وقد شغلت قضيّته الرأي العام التونسي على امتداد الاسبوع الفارط وجعلت من اسمه يتصدّر هاشتاغات روّاد المنصات الاجتماعيّة.

أن يحضر قاض مسجون للمحكمة على كرسي متحرّك، وأن يخرج من السجن في سيارة اسعاف، يجعل المتابع للصور والفيديوهات المتداولة يتساءل : مالذي جعل حياة المكّي بن عمّار تنقلب رأسا على عقب؟ ومالذي يجعل شخصا كان يترأس جلسات المحاكمات بأن يصبح متّهما تحوم حوله الشبهات؟

عادة ما تضيع الحقيقة عندما تتعدّد الروايات وتتضارب التصريحات وهذا ما حصل في قضيّة الحال التي خلقت جدلا ولبسا عند متابعيها.

أنصف بن عمّار ولكن...

لنعد بالزمن قليلا، ونبحث عن طرف الخيط لهذه الحكاية. حيث انطلقت في نوفمبر 2019 عندما دوّن بن عمّار كتب القاضي المكي بن عمار تدوينة على حسابه بالفيسبوك تحدث فيها عن مظلمة تعرض لها بسبب كشفه لعصابة حرائق الحبوب التي انتشرت صائفة 2019 بسليانة. وأكد القاضي في ذات التدوينة بأنه اقالته تمت بطريقة غريبة حيث اعلم انه تم انهاء عمله على الرغم من انه لم يتقدم مطلقا باستقالة.

بين الاقالة والاستقالة روايات متعدّدة وبين ما اصدره المجلس الاعلى للقضاء وما يؤكّده بطل حكايتنا اليوم تضارب كبير يجعل المسألة محلّ جدل وتساؤل.

اتُّهم بن عمّار بالجنون وأودع مستشفى الرّازي بإذن إيواء وجوبي من النيابة العموميّة ونشرت ضدّه قضيتين الاولى من أجل الاعتداء على موظف عمومي أثناء مباشرته لوظيفه، والثانية من اجل الاساءة إلى الغير عبر شبكة التواصل الالكتروني.

وبات مسيّر الجلسات قابعا في داخل أسوار برج العامري.
خفت صوت هذا الملف لبضعة أشهر وطفى على السطح من جديد بعد تصريحات  اعلاميّة للمحامية منجية بالحاج عمر والتي أكّدت فيها أنّ منوّبها حاول الانتحار داخل سجنه وأنّه تعرّض للتعذيب والهرسلة. وأفادت الاستاذة بالحاج عمر أنّ منوّبها يدفع فاتورة كشفه لعديد قضايا الفساد منذ 2015 بما في ذلك قضيّة القمح المسرطن في 2018.

وفي اخر زيارة للقاضي بسجن برج العامري، أطلقت المحامية صيحة فزع حول الوضعيّة التي وجدت فيها منوّبها ودعت المحامين والقضاة والحقوقيين لمساندتها في هذه القضية.

ادارة السجون والاصلاح ترد

وفي ردّ على ما صرّحت به المحامية منجية بالحاج عمر، أكدت الهيئة العامة للسجون والإصلاح في بلاغ توضيحي لها الإربعاء 20 جانفي 2021، أن الحالة الصحية للسجين القاضي مكي بن عمار مستقرة وهو محل متابعة طبية ونفسية.

وأوضحت الهيئة، أنّه على إثر إعتزام المعنى بالأمر الدخول في إضراب عن الطعام تم الشروع الفوري في تطبيق البروتوكول الصحي الخاص بمتابعة المساجين المضربين عن الطعام وقد تم معاينته من قبل الطبيب القار بالسجن.

وشدد البلاغ على أن هيئة السجون تتمسك بالإلتزام بتطبيق مقتضيات القانون دون سواه وعلى قدم المساواة عند التعامل مع كافة المودعين.

نواب مجلس الشعب على الخط

تعاطف العديد من نواب مجلس الشعب مع قضيّة هذا القاضي من بينهم رئيس الكتلة الديمقراطية بالبرلمان محمّد عمّار حيث طالب خلال جلسة حوار الحكومة بخصوص الوضع العام في تونس بضرورة الكشف عن الحقيقة في ملفّ القاضي المكي بن عمّار والحسم في مسألة وضعه الصحي داخل السجن.

ودوّنت النائبة عن كتلة قلب تونس "سلامة حياة القاضي السابق السجين مكي بن عمّار مسؤوليّة وزارة العدل وسنحمّل المسؤولية لكلّ متخاذل ."

من جهته، ندّد النائب عن الكتلة الديمقراطية  بدر الدين القمودي بكل اشكال الهرسلة والتعذيب التي تعرض لها بن عمّار ودعى السلطات للافراج عنه، مضيفا :"اساند وادعم بكل ما اتيت من جهد هذه القضية العادلة والتي تعود بنا لفترة الاستبداد عندما كان ينكّل بكلّ المعارضين واتمنى أن تقلع السلطة السياسية القائمة حاليا على هكذا ممارسات."

واكّد  القمودي في تصريح لبرنامج "هنا تونس" الذي يبثّ عبر موجات "ديوان اف ام" أنّ هذا القاضي تعرّض لحملة تنكيل كبيرة اثرت عليه مهنيا ونفسيا وصحيّا وهو بصدد دفع فاتورة لتبليغه عن ملفات فساد وتم ايداعه السجن بتهم واهية على خلفية تدوينات لا ترتقي لمستوى جريمة تستوجب وضعه في السجن، على حدّ تعبيره.

وفي سؤالنا له عن تضارب الروايات في هذا الملفّ، ما بين من يعتبره مبلّغا ومن يعتبره متورطا في ملفات فساد، قال رئيس لجنة مكافحة الفساد بالبرلمان:" ان الحكاية انطلقت عندما كان بن عمار يباشرعمله بالمحكمة الابتدائية بقفصة وتعاطى مع ملفات فساد مرتبطة بالمرفق القضائي. بعد ذلك تمت نقلته تعسّفيا الى سليانة في الفترة التي تعرّضت فيها محاصيل القمح الى الحرق وتابع هذا الملف وتوصّل لمعطيات وحقائق تدين اطراف رسمية.  وعلى خلفيّة ذلك تم توجيه الدعوة له للتفقدية العامة لوزارة العدل وتم اعلامه بان طلب استقالته قد قبل فحاججهم بانه لم يقدّم اي استقالة وبدأت منذ ذلك الوقت عملية الهرسلة."

وأكّد بدر الدين القمودي انّ هذا القاضي هو ضحيّة للتبليغ عن الفساد  على حدّ قوله.

نقابة تتكتّم وورابطة تتساءل

تكتّم نقابة القضاة التونسيين عن قضيّة الحال  أثار جدلا كبيرا، فكيف أن يكون القاضي مكّي بن عمّار محلّ حديث الشارع التونسي  ولا تتفاعل النقابة مع هكذا ملف.

وفي تواصلنا مع رئيسة نقابة القضاة اميرة عمري قالت :"ليس هناك موقف رسمي للنقابة وان وجد سيصدر في بيان".  بيان لم يرى النور حتّى بعد صدور قرار الافراج عن هذا القاضي المعزول.

ومن جهة أخرى أكدت عضوة الهيئة المديرة لرابطة حقوق الانسان نجاة الزموري ل"ديوان اف ام" أنّ ملفّ بن عمّار غير واضح وأنّ القضية غامضة ولا يمكن الجزم في تفاصيلها ، مطالبة بمزيد من الشفافيّة  في القضايا المتعلقة بالفساد خاصّة وانّ حملات التشويه والهرسلة التي يتعرّض لها المبلغين تجعلهم لا يعرفون الغث من السمين على حد تعبيرها.

وتساءلت الزموري :" كيف لقاض بكامل مداركه العقليّة يتحوّل لهذه الوضعيّة؟ نريد المعلومة كاملة وهل هو فعلا مبلّغ عن الفساد ؟ هناك عديد الجوانب في الظل وتحتاج تسليط الضوء عليها."

ودعت محدّثتنا الى ضمان الحرمة الجسدية للقاضي بن عمّار وبأن تدور المحاكمة  في ظروف فيها الضمانات القانونية على حدّ قولها.

بعد أن تم مساء الخميس 21 جانفي 2021 الإفراج عن القاضي المعزول مكي بن عمار واصدار حكمين بالخطية المالية في القضيتين المنشورتين ضده، من سيجرأ للبحث عن الحقيقة واماطة اللثام عن الاسباب الفعليّة التي جعلت الغموض يحيط بهذا القاضي؟ وهل ستتحرّك المنظّمات الحقوقيّة من أجل الدفع لانارة الرأي العامّ حول ملابسات هذه القضيّة؟  وكما قال أحد المشاهير : "في وقت الخداع العالمي، يصبح البحث عن الحقيقة عملا ثوريا".

*ايمان السكوحي