حارس الجبّة التونسية ...الحرفيّ الأخير في المدينة العتيقة بصفاقس
أسراب من الناس يسيرون في خطوط مستقيمة وملتوية، تقطع حركة مرورهم أحيانا عربات ثنائية العجلات يقودها أحد 'الحمّالة'، على متنها بضائع عدد من التجّار المنتصبين في المكان.
يسار مدخل السوق من جهة 'دروج الديماسي' تحديدا في نهج 'الباي 'توجد ورشة صغيرة لخياطة الجبّة الرجالية التونسية جلس في عمقها رجل ستيني غزا الشيب أغلب شعره يعمل مقصّه في 'بونتة' جبّة حريرية.
عمّ الطاهر الخرّاط هو الحرفيّ الوحيد في المدينة العتيقة بصفاقس الذي لا زال يخيط الجبّة الرجالية التونسية، يدويّا، أخذ 'الصنعة' منذ نعومة أظفاره عن أخوته، ولم تنسه 36 سنة من العمل في البريد التونسي عشقه الأوّل.
ملحمة عشق سيزيفية
منذ أن كان عمره 4 سنوات، يذهب الى الورشة في نهج الباي ليشاهد أخوته يصنعون الجبّة، سرق عنهم 'الصنعة' التي تفتك ولا يعلّمها لك أحد، وفق تعبيره، وحين بلغ 9 سنوات أضحى قادرا على خياطة جبّة بأكملها لوحده.
بالتوازي مع عمله موظفا في البريد التونسي اقتنص عمّ الطاهر أوقات الفراغ وأيام العطل لممارسة حرفة خياطة الجبّة، وحين أحيل على التقاعد سنة 2006 نذر ما تبقى من حياته للجبّة التونسية الأصيلة.
يستحضر الرجل العصر الذهبي للجبّة في سوق الربع بصفاقس، يعود الى أواخر خمسينات القرن الماضي... قرابة 70 حرفيا من خيرة ما أنجبت تونس كانوا هنا يزاولون حرفة خياطة الجبّة التونسية... بعضهم توفّي والبعض الآخر أصبح عاجزا عن ممارسة الحرفة بسبب التقدم في السن وأمراض الشيخوخة.
صامدا في معبده الصغير غير عابئ بضوضاء وجلبة المارّة أمام ورشته ...جالسا حينا وواقفا تارة، يعمل مقصّه في القماش يقوم بكيّه أو يرسم نماذج لأنواع مختلفة من الطريزة التي تكسو الجبّة ...يتحدى عمّ الطاهر عجلة الزمن ويخوض ملحمة عشق سيزيفية مع مهنته ' الخدمة هذي إذا كان متحبهاش متنجمش تخدمها ... الى آخر يوم في حياتي منسلمش فيها'.
مراحل تطوّر الجبّة
عرفت الجبّة الرجالية الأصيلة تطورا لافتا من أواخر ستينات القرن الماضي الى أواخر التسعينات حيث كانت تدخل عليها تحسينات وأنواع جديدة من الطريزة والزينة كل عشريّة، يقول عمّ الطاهر ان الجبّة 'الزّمنية' كانت تجهز في 5 أيّام فقط ' نركّب الحرج ونفصّل وتصبح جاهزة في وقت وجيز'، يحتفظ داخل ورشته بالجبّة التقليدية التي كانت تلبس في الستينات والسبعينات والثمانيات فقد واكب كلّ مراحل تطور الجبّة بل انّه أبدع وخلق نماذجه الخاصة من الطريزة والزينة...
أنواع الجبّة
في أيّام الصيف الحارّة والطويلة ذروة موسم الطلب على الجبّة حين تكثر الأعراس والأفراح قد يقضي 20 ساعة من العمل اليومي بين ورشته ومنزله غير مكترث بالوقت همّه الوحيد خياطة جبّة وتسليمها في الموعد الى الحريف.
تتعدد أنواع الجبة التقليدية الأصيلة فنجد الحرير (المصنوعة من الحرير) وهي أكثر نوع مطلوب، والمقردش (تنسج من الحرير و الصوف)، أو القمراية (قماشها من الكتّان)، أو الاستكرودة (جبة من الحرير المنسوج بلونه الاصفر الطبيعي) ....
تحتاج الجبّة المصنوعة يدويّا الى شهر من العمل الدؤوب لتجهز فبعد أن يجلب الحريف 'القصّة' الى عمّ الطاهر يأخذ القياس مرّة ومرّتين وأحيانا ثالثة، يركّب 'الحرج'، السلسلة و 'يبشمر' القماش، يطرز النّقوش والزينة، يقع كيّ الجبّة، بعض الرتوش على 'البونتة'... وتضحي جاهزة.
'الجبّة ما توفاش الى يوم يبعثون...'
التونسي متصالح مع تقاليده ويبحث عن الأصالة دائما هكذا قال عمّ الطاهر مشيرا الى أن ' جبّة الماكينة' (المصنوعة بآلة الخياطة) وهي الصنف الطاغي بسوق الربع، غير قادرة على منافسة الجبّة التقليدية المصنوعة يدويا.
رغم نقص المواد الأولية المستعملة في صناعة الجبة التقليدية، من حرير و 'حروجات'... يحارب الحرفي الأخير في المدينة العتيقة بصفاقس من أجل الحفاظ على استمرارية الجبّة التقليدية الأصيلة ضد الآلة وفلسفة الزمن، ' الجبّة متوفاش الى يوم يبعثون أمّا توفى الناس الى يخدموها في صورة عدم تسلّم الشباب المشعل'، وفق تعبيره.
يتابع قائلا:' الشباب لا يريد أن يكون منعزلا وصناعة الجبّة تحتاج الى صبر كبير وتفرّغ '، ربّما كان ذلك سبب عدم وجود شبّان يأخذون عنه الصنعة فهو يعمل لوحده في ورشته أو منزله وأحيانا يساعده شيخ طاعن في السن في عملية ' تبشمير' الجبّة.
يعبر خيط الابرة في الحكاية يطوي الزمان الى الوراء ولا يبارح المكان، نفس الأصابع تطرز النقوش على الحرير والصوف والأقمشة منذ عقود دون كلل أو ملل، أحبّ صناعة الجبّة التقليدية بشغف شديد فباحت له بأسرارها يملك اكسير استمرارها يحرسها بكل ما أوتي من جهد من الزوال، عمّ الطاهر قصّة كفاح ملحمية نذر نفسه من أجل الموروث والذاكرة الوطنية في سبيل خلود الجبّة والصناعة التقليدية.