اتهامات متبادلة وقرارات غير مسبوقة.. ماذا يحدث بين الجزائر وفرنسا؟

تأتي هذه القرارات في سياق تصعيد مستمر، إذ أصدر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في اليوم ذاته تعليمات بتشديد شروط التأشيرات على المسؤولين الجزائريين، مع تعليق اتفاق الإعفاء الذي يعود لعام 2013. وردّت الجزائر سريعًا بإلغاء نفس الاتفاق، ووصفت الخطوات الفرنسية بأنها "ابتزاز ضاغط" يزيد من تعقيد العلاقات ويُبرز عمق الأزمة بين البلدين.
من جهة أخرى، لم تُبدِ باريس حتى الآن أي رد فعل رسمي على قرارات الجزائر بشأن العقارات، وسط ترقّب لما ستسفر عنه الأيام المقبلة، وما إذا كانت الخطوة ستفتح باب التهدئة عبر المفاوضات أم تدفع بالعلاقات نحو مزيد من التصعيد. فهل تمثل هذه التطورات حلقة جديدة في مسار التوتر المزمن بين البلدين، تمهيدًا لقطيعة أعمق أم إعادة لفتح ملفات الماضي على طاولة الخلاف؟
الأزمة الجزائرية الفرنسية: ماذا يحدث؟
قبل الخوض في تفاصيل الحاضر، لا بد من الغوص في السياقات التي دفعت الجزائر لاتخاذ هذا القرار، والتي تعود إلى جويلية 2024، حين أعلنت فرنسا دعمها لخطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء الغربية. وردّت الجزائر على ذلك باستدعاء سفيرها من باريس، لتكون هذه الخطوة نقطة انطلاق حقيقية للأزمة الدبلوماسية بين البلدين.
إلى جانب البُعد السياسي، يشهد التمثّل الاقتصادي الفرنسي في الجزائر تراجعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، خصوصًا في مجال الواردات، حيث بدأت الشركات الفرنسية تفقد حصتها السوقية أمام منافسين من دول أخرى، ما أثر على علاقاتهم الاقتصادية.
تلت هذه الخطوة سلسلة من الأحداث المتسارعة التي زادت من حدة التوتر بين الجزائر وفرنسا. بدأ الأمر باعتقال الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال بتهم متعددة، مما أثار استنكارًا واسعًا في فرنسا، قوبل في المقابل بغضب جزائري واتهامات بالاستعلاء الفرنسي والتدخل السافر في الشؤون الداخلية للجزائر.
لم تتوقف الأزمة عند هذا الحد، إذ صدمت الأوساط السياسية والدبلوماسية بخبراعتقال موظف دبلوماسي جزائري بشبهة التورط في اختطاف ناشط جزائري معارض يقيم في فرنسا، ما زاد من تعقيد العلاقات.
وفي خطوة أخرى أطلقها وزير العدل الفرنسي جيرالد دارمانين، أعلن عن نيّة إلغاء اتفاقية تعود إلى 2013 تُعفي الدبلوماسيين الجزائريين من تأشيرة الدخول إلى فرنسا، ما فاقم الأزمة وأدخل العلاقات في دوامة تصعيد جديدة.
تصاعدت الخلافات لتشمل ملفات أخرى، حيث استدعت الجزائر السفير الفرنسي احتجاجًا على تدريبات عسكرية مشتركة بين فرنسا والمغرب، معتبرة ذلك خرقًا لسيادتها الوطنية، لا سيما في ظل دعم فرنسا لخطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء الغربية، التي ترفضها الجزائر وتعتبرها مساسًا بوحدة أراضيها.
وردت باريس بتهديد إلغاء إعفاء تأشيرات الدبلوماسيين الجزائريين، مما زاد من تأجيج الأزمة، خصوصًا في ظل رفض الجزائر استقبال مواطنيها المطرودين من فرنسا، ليغدو الملف أكثر تعقيدًا مهددا بانفجار دبلوماسي واسع بين البلدين.
تصعيد متبادل
تبع ذلك تبادل متصاعد لعمليات طرد الدبلوماسيين، حيث قامت الجزائر بطرد 12 دبلوماسيًا فرنسيًا، لترد فرنسا بالمثل باستدعاء سفيرها وطرد دبلوماسيين جزائريين. لم تقتصر الأمور عند هذا الحد، إذ طردت الجزائر 15 موظفا تابعين لوزارة الداخلية الفرنسية من الأمنيين وعناصر مكاتب الارتباط الأمني، وردّت فرنسا بمثل هذه الإجراءات، في مشهد دبلوماسي يشير إلى تصعيد غير مسبوق.
لا يمكن فهم عمق التوترات الحالية بين الجزائر وفرنسا بمعزل عن التاريخ الاستعماري الطويل الذي جمع بين البلدين. خضعت الجزائر للاستعمار الفرنسي لمدة تزيد على 130 عامًا، ابتداءً من عام 1830 حتى الاستقلال سنة 1962، وهو عهد اتسم بمعاناة جسيمة للشعب الجزائري من قمع واستغلال واضطهاد. ترك هذا التاريخ أثرًا عميقًا في الذاكرة الوطنية والسياسية للجزائر، وأسّس لمرارة متجذرة تجاه فرنسا لا تزال تلقي بظلالها على العلاقات بين البلدين حتى اليوم.
مع تصاعد التوتر بين الجزائر وفرنسا، تقف العلاقات الثنائية اليوم عند مفترق طرق، وسط أزمة دبلوماسية غير مسبوقة تهدد بإعادة تشكيل المشهد السياسي في المنطقة. الإجراءات المتبادلة، من طرد الدبلوماسيين إلى مراجعة الاتفاقيات،
تعكس صراعًا عميقًا يتجاوز خلافات سطحية إلى معركة على السيادة والمصالح الاستراتيجية.
ويُذكر أن الجالية الجزائرية في فرنسا تعد الأكبر بين الجاليات الأجنبية في البلاد، حيث يقدر عدد أفرادها بحوالي 5 ملايين شخص، خاصة وأنها تمثل جسراً ثقافيًا واجتماعيًا يؤثر بشكل مباشر على مجرى العلاقات بين البلدين.
وفي ظل هذه التغيرات، يبقى التساؤل مطروحًا حول قدرة البلدين على تفادي المزيد من الانزلاق نحو التوتر والقطيعة. إلا أن الواقع الراهن يفرض تحديات جسيمة على الطرفين، وقد تشكل السنوات المقبلة محطة حاسمة في رسم ملامح مستقبل العلاقة بين دولتين تجمعهما روابط تاريخية وثقافية وجغرافية عميقة، لكنها اليوم تخضع لاختبار قاسٍ للثقة والاحترام المتبادل.