الفساد ينخر منظومة الأمن الغذائي في تونس: إلى متى الصمت والتهاون؟
وفي الوقت الذي تستورد فيه البلاد سنويا كميات كبيرة من الحبوب بالعملة الصعبة، يقع مؤخّرا اتلاف ما قيمته 2.5 مليون دينار من هذه الحبوب بعد تركها للعراء دون استغلال ودون ان يستفيد منها صغار الفلّاحين، فماهي حيثيات هذا الملف؟ وماهي أسباب تلف هذه الكميّات ؟ ومن يتحمّل مسؤوليّة هذه الخسارة؟
17 ألف قنطار من البذور الفاسدة في قبلّاط
أُثيرت القضيّة إبّان معلومات وردت على لجنة الفلاحة بمجلس نواب الشعب تفيد بأنّ كميات من الحبوب الممتازة التالفة موجودة في العراء في التعاضدية المركزية للبذور والمشاتل بڨبلاط .
وقد انتقل وفد من المجلس على عين المكان، لكنهم تعرّضوا لكثير من الضغوطات ولم يُسمح لهم بمعاينة الحبوب إلّا بعد تدخّل السلطات الرسمية من والي ومعتمد وحرس وطني، حسب ما أكدته عضو لجنة الفلاحة بالبرلمان سهير عسكري لديوان أف أم.
" لقد فوجئنا بوجود ما يقارب 17 ألف قنطار من الحبوب الفاسدة في العراء، ومعرضة للأمطار وتقدر قيمتها ب2.5 مليون دينار، وقد تمّ نقلها من باجة إلى ڨبلاط بتكلفة نقل 200 الف دينار" هكذا وصفت سهير المشهد الذي صدمت به اللجنة أثناء معاينة حالة المحصول.
واعتبرت محدّثتنا، أنّ هذا ملف من ملفات الفساد، وأنه سيقع استدعاء كل من مدير ديوان الحبوب ومدير التعاضدية ووزيرة الفلاحة للوقوف على حيثيات الملف ومحاسبة الأطراف المعنية والتي تسببت في الاتلاف على حدّ تعبيرها.
الحبوب التي أتلفت تعود إلى صابة 2018 وتُركت للعراء بمراكز تجميع الحبوب بباجة، ولم يقع استغلالها لمدة موسمين رغم أن الفلاحين يشتكون من نقص البذور الممتازة وتضطرّ الدولة التونسية لاستيرادها بالعملة الصعبة.
وتساءلت عضو لجنة الفلاحة: "لماذا لم يقع التفويت في كميات الحبوب للفلاحين بأسعار معقولة؟ لماذا لم يقع استغلالها لموسمين متتاليين؟ لماذا لم تحوّل هذه لمستحقيها من الفلاحين وتركها للتلف؟
أسئلة حاولنا ايجاد أجوبة لها من طرف المسؤولين سواء من وزارة الفلاحة أو ديوان الحبوب أو بعض الخبراء إلّا أنّ المسألة في عمقها تتجاوز سوء التخزين أو الاهمال الى مشاكل تنخر شركات التخزين حيث دوّنت النائب عن التيار الديمقراطي أمل السعيدي، أنّ الشركة التعاونية المركزية للمشاتل والبذور الممتازة كانت ولا تزال تشكو من إخلالات كبيرة جعلت منها شركة عاجزة ومفلسة.
وتشير مصادر مختلفة بأنّ المدير العام الذي كان يدير هذه الشركة وقع نقله لتقلّد منصبا جديدا.
وزارة الفلاحة على الخطّ
وزارة الفلاحة لم تبقى ساكنة أمام هذا الملف، حيث أكّد لنا المدير العام للصحّة النباتية محمد الحبيب الجامع، أنّه محل متابعة من قبل الوزارة منذ شهر أوت الفارط وحتّى قبل أن تثيره لجنة الفلاحة بالبرلمان.
"لقد حاولنا انقاذ هذه البذور لكننا لم نفلح" كانت هذه اكثر الجمل التي قيلت في مصافحتنا لمحمد الحبيب الجامع وكأنّ الأمر محتوم وعلينا تقبّله بكلّ عفويّة.
وأوضح المدير العام للصحّة النباتية، أن الكميّة تنقسم لقسمين منها 6 آلاف قنطار بذور مرفوضة ولا تستجيب للمعايير في علاقة بنسبة الانبات، 11 ألف قنطار من البذور الجيدة التي وقع المصادقة عليها ولكن الشركة لم تستطع المحافظة عليها، على حدّ قوله.
وتتعامل وزارة الفلاحة مع 4 شركات اثنتين منهم تعاضديات واخرتان من الشركات الخاصّة.
"الشركة التعاونية المركزية للمشاتل والبذور الممتازة جمّعت 115 ألف قنطار في الموسم الجديد وكان هدفنا حماية التجميع الجديد فراسلنا الشركة وطلبنا منهم ان يخرجوا البذور الفاسدة فوقع تحويلها لقبلاط" هكذا تحدّث المدير العام للصحّة النباتية عن أسباب نقل البذور من باجة وقبلاط.
وأضاف أنّ الوزارة اتخذت الاجراءات منذ شهر اكتوبر واذنت بتفقّد اداري في الغرض وكلّفت به التفقّدية العامّة لوزارة الفلاحة بالإضافة لمراسلة الهيئة العامة للرقابة المالية للقيام بتدقيق مالي للشركة، وختم حديثه قائلا: "نأمل أن تحضر النتائج في أقرب الآجال".
أزمة في السيادة الغذائية
مشاكل سوء تخزين وعدم توفير الظروف الملائمة للتعامل مع المحصول ليست جديدة في تونس، فالتعامل مع المحاصيل الزراعية يسوده الغموض وتحيط به الألغاز من كلّ جانب.
وفي هذا السياق، أكّد الناطق الرسمي باسم المنتدى الاجتماعي والاقتصادي رمضان بن عمر أن "تونس تعاني من أزمة كبيرة في سيادتها الغذائية خاصة فيما يتعلق بالبذور الممتازة وهذا ما يبين عجز الإدارة التونسية وعدم الكفاءة في التصرّف في مثل هذه الوضعيات"، مشيرا إلى أنّ البيروقراطية تنخر أجهزة الدولة على المستوى الجهوي والمحلي والمركزي.
وأردف بن عمر، أنّ هذه الحادثة هي الوجه الآخر لعديد الملفات التي تبين حالة العطالة التي أصابت الإدارة التونسية ومختلف أجهزتها وهذا ما جعل المال العام دون رقيب أو حسيب.
وشدّد، على أهميّة التحقيق بجدية في هذا الملف وتحميل المسؤوليات وعدم الافلات من العقاب ازاء مثل هذه التجاوزات التي تهم السيادة الغذائية لتونس، وفق تعبيره.
ويظلّ ملف السيادة الغذائية من الملفّات المثيرة للجدل منذ التسعينات خاصّة بعد توخّي تونس سياسة التخلّي عن بذورها المحلية، وإغراق السوق بالبذور الهجينة، فإلى متى ستبقى الدولة التونسيّة في تبعيّة خاصّة في ظل غياب إستراتيجية وطنية للحفاظ على المخزون المحلي من البذور؟
إيمان سكوحي