أزمة النفايات بصفاقس... حلول ترقيعية وسط غياب استراتيجية ناجعة
عائشة ليست الوحيدة التي تعاني من الآثار السلبية لمصب الميناء بصفاقس، فهذه حال الأهالي الذين يعيشون على وقع أزمة النفايات منذ أكثر من عام ... أزمة تتواصل في ظل الحلول الترقيعية التي تكشف عجز الدولة عن فض المشكل نهائيا..
من هنا بدأت الأزمة …
عندما تزور ميناء صفاقس تجد النفايات وقد انتشرت في المصب حتى أصبحت جبلا كبيرا وقد انبعثت منه الروائح الكريهة التي تعم الأجواء وباتت المنطقة القريبة منه أشبه بالمنكوبة تتكاثر فيها الحشرات والقوارض التي تهدد قاطنيها (حوالي 5000 ساكن) بالأمراض. كما انعكس هذا الوضع سلبا على عدد من الأنشطة الاقتصادية مثل نشاط الصيادين الصغار أمام التهديد الذي تشكله النفايات على الثروة السمكية، بالإضافة إلى "البرباشة" الذين يقومون بفرز النفايات.
بدأ جمع الفضلات في مصب طريق الميناء منذ 6 اكتوبر 2021 كحل مؤقت لأزمة أعمق حلت بولاية صفاقس، حيث كان يستقبل إلى حدود غلقه في 31 أكتوبر 2022 ما بين 700 و800 طن يوميا من النفايات المتأتية من مختلف النقاط البلدية بالمدينة (وهي تسعة: صفاقس المدينة/الشيحية/ قرمدة /العين / ساقية الزيت/ طينة/العوابد/ ساقية الداير/الحاجب)، وفق ما أفادنا به رئيس بلدية صفاقس منير اللومي.
وتعود بداية أزمة النفايات في صفاقس إلى يوم 27 سبتمبر 2021 بعد قرار الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات غلق مصبّ النفايات “القنة” في معتمدية عقارب من ولاية صفاقس الذي تم إحداثه في 1 أفريل 2008 وهو المصبّ المراقب الرئيسي بالجهة وثاني أكبر مصبّ نفايات في الجمهورية بعد مصب برج شاكير، ويمسح 35 هكتارا. ويرجع ذلك إلى صدور القرار القضائي القاضي بغلق مصب القنة نهائيا بتاريخ 11 جويلية 2019.
ويذكر أن المدة القانونية لاستغلال المصب كانت انتهت منذ 2013 ولم يطبق قرار الغلق المأخوذ في نفس السنة، مما دفع الأهالي إلى التحرك منذ سنة 2016 للمطالبة بتفعيل القرار من خلال التحرك الميداني والاعتصامات. وكحركة تصعيدية، تم في شهر سبتمبر 2021 إغلاق الطريق ومنع وصول شاحنات النفايات إلى مصب القنة، وهو ما أدى إلى تراكم النفايات في كامل ولاية صفاقس لتعيش أزمة نفايات غير مسبوقة.
ولحلها مؤقتا، قرر المجلس البلدي لبلدية صفاقس يوم 5 أكتوبر 2021 إحداث نقطة تجميع مؤقتة للفضلات بمصب الميناء بصفاقس الى حين ايجاد حل جذري لمسألة النفايات واعادة فتح المصب المراقب ونقل كل الكميات المجمعة إليه واعلام كل من وزارة الشؤون المحلية والبيئة والوكالة الوطنية للتصرف في النفايات والوكالة الوطنية لحماية المحيط بهذا القرار، ومن ثم تمت الموافقة عليه من طرف وزير الشؤون المحلية والبيئة بالنيابة سابقا كمال الدوخ يوم 7 أكتوبر 2021 ليُسمح بإحداث نقطة التجميع المؤقتة بالميناء بصفة استثنائية ووقتية لمدة لا تتجاوز الشهرين، الى غاية فض الاشكال الناجم عن غلق المصب المراقب بالقنة بعقارب.ومنذ ذلك الوقت وأزمة النفايات بصفاقس لم تُراوح مكانها، رغم غلق مصب بالميناء في أواخر شهر أكتوبر من السنة الجارية.
فيديو يلخص بداية أزمة النفايات والمراحل التي مرت بها
"الخبزة مرة" ..والأمر منها المصب ..
يُمضي أحمد (اسم مستعار) "برباش" بمصب الميناء بصفاقس يومه يبحث في أطنان النفايات المكدسة بالمصب عن قوارير بلاستيكية وعلب أو قطع حديدية أو قطع أثاث يبيعها في آخر النهار ليُعيل زوجته وابنه من ذوي الإحتياجات الخصوصية. يتعامل بنوع من اللّامبالاة مع الفضلات، دون أن يعي أنّه يتعامل يوميّا مع أمراض قاتلة. تحدث إلينا بنبرة حادة ممزوجة بوجع كبير: "رزقي أجمعه من مصبات النفايات. ورغم التعب والروائح الكريهة، كنت أجني قوت يومي. ولكن اليوم آتي إلى هذا المصب ومن شدة أطنان النفايات المكدسة دون معالجتها "مرضت" ولم أعد أحتمل الذباب الملتصق بوجهي"، مضيفا "اختنقت من رائحة الدخان المتصاعد نتيجة حرق الفضلات وأصبحت أتقيأ كثيرا من شدة الروائح الكريهة".
حال البرباشة لا يختلف كثيرا عن حال المواطنين الذين يسكنون قريبا من المصب البعيد عنهم قرابة 800 مترا ويشتكون من رائحة النفايات والدخان المتصاعد منها والتي أصبحت تملأ منازلهم وينددون بالآثار السلبية لتكدس النفايات على صحتهم وبيئتهم، حيث يقول علي، أحد المتساكنين القاطنين غير بعيد عن المصب ،"إن المشكلة تؤرق الجميع، حيث تأخر كثيراً حل هذه الأزمة ما فاقم تراكم النفايات التي أدت إلى انتشار الحشرات كالبعوض وأصبحت ملجأ للحيوانات الضالة وخاصة الخنازير"، متابعا "خوفنا اليوم من أن تنتشر الأمراض والأوبئة جراء التلوث ..للصبر حدود."
حرق النفايات يفرز غازات سامة تهدد صحة الإنسان
وما يزيد أزمة مصب الميناء تعقيدا هو حرق الفضلات والدخان المتصاعد منها وما تخلفه هذه العملية من أخطار صحية وبيئية (علما وأنه يُحجّر حرق الفضلات في الهواء الطلق ولا تتم عمليات الإزالة بالحرق إلا في منشآت مرخص فيها حسبما جاء في الفصل 7 من القانون عدد 41 لسنة 1996 المتعلق بالنفايات وبمراقبة التصرف فيها وإزالتها. في هذا الصدد، يؤكد رئيس قسم الأمراض الصدرية بمستشفى الهادي شاكر بصفاقس، سامي كمون أن ما تعيشه صفاقس اليوم من حرق للفضلات بصفة عشوائية وما تحتويه من مواد، من شأنه أن يتسبب في تعكر الحالة الصحية للمصابين بأمراض صدرية مثل ضيق التنفس أو أمراض القلب، بما أن عملية حرق هذه المواد تفرز مواد خطرة تنتشر في الهواء ثم تعود إلى الأرض وتستقر على العشب الذي يتغذى منه الإنسان والحيوان. ويمكن أن تنتقل هذه الغازات لمسافات طويلة إلى التربة، والنباتات، وفي الماء كما يحتوي الرماد المتبقي في كومة الحرق أيضا على ملوثات قد تنتشر في التربة والماء.
وكانت اتفاقية استكهولم حول الملوثات العضوية الثابتة والمنقحة سنة 2009 نصت على ضرورة استخدام أفضل التكنولوجيات المتاحة في حرق الفضلات لأنها تسفر مع مزيج مناسب من التدابير الأولية والثانوية، عن تقليل (T.EQ3-I ng 1.0) وهي انبعاثات الديوكسين والفيوران في الهواء. وتعرف منظمة الصحة العالمية الديوكسينات بأنه مجموعة من المواد المركبة المترابطة كيميائياً كما أنّها من الملوثات البيئية الثابتة ومن المواد الشديدة السميّة و بإمكانها إحداث مشاكل إنجابية وإلحاق أضرار بالجهاز المناعي وعرقلة الهرمونات والتسبّب في الإصابة بالسرطان.
مصب الميناء: مقبرة الطيور
ولا تقتصر الآثار السلبية للمصب على الإنسان وإنما تصل أيضا إلي الحيوان، حيث أن فضلات الدجاج المتأتية من المسالخ والتي يتم سكبها في المصب أسفرت عن ظهور مرض النيوكاسل عند طائر النورس الموجود بالميناء، حسب الخبير في الطيور، الحبيب الدلنسي .
ومرض النيوكاسل NEWCASTLE هو عبارة عن عدوى تصيب الطيور الداجنة والطيور الأخرى وهو سريع الانتشار ينتقل من خلال الغذاء والماء الملوث، وكذلك من خلال الرذاذ في الهواء، حسبما جاء في موقع المنظمة العالمية لصحة الحيوان (OMSA). وتتلخص أعراضه في حدوث خمول وانتفاش الريش وعدم الميل للأكل وإسهال يميل إلى اللون الأخضر الداكن، ويصاحب ذلك ظهور إفرازات مخاطية من الأنف والأعين وصعوبة في التنفس، وقد يتبعه التواء في الرقبة وشلل في الأجنحة والأرجل.
وقد ظهر هذا المرض أولا في صفاقس سنة 2013 وأسفر عن نفوق في حدود 2000 طائر نورس نتيجة التحاليل التي تم إجراؤها وقتها من قبل معهد البحوث البيطرية بتونس وبينت أنه متأتي من فضلات الدجاج الملقاة في المصبات. في هذا الصدد، يُشدّد الحبيب الدلنسي على أنه منذ فتح مصب الميناء يوم 7 أكتوبر 2021 تم تسجيل نفوق حوالي 400 طائر نورس، علما وأن المنطقة الرطبة بطينة والتي تمتد على طول 10 كم جنوب مدينة صفاقس على الشريط الساحلي، تعتبر ثاني أكبر مستعمرة لنوع من النورس يسمىGoéland railleur أثناء فترة التعشيش وتحتوى في أي وقت من السنة على اكثر من 20.000 طائر من عشرات الأنواع، حسب الخبير.
نسخة من نتائج التحاليل التي أجريت على عينة من طائر النورس سنة 2013
الخبير في الطيور الحبيب الدلنسي
البحار يستغيث ..والثروة السمكية في تلاشي
ينعكس وضع الفضلات في مصب الميناء أيضا على الثروة السمكية، إذ تتأثر الأسماك بالقوارير والمواد البلاستيكية الملقاة بالمصب والتي تتشبع بملوثات كيميائية مثل مركب ثنائي الفينيل متعدد الكلور الذي يدخل إلى شبكات الغذاء البحرية عندما تبتلعه الأسماك وغيرها من الكائنات البحرية وفق مقال نشره الموقع العلمي scientific american بتاريخ 4 سبتمبر 2018 وعنوانه " From Fish to Humans, A Microplastic Invasion May Be Taking a Toll"
وقد قدّر الصندوق العالمي للطبيعة (WWF) سنة 2019 عدد الفصائل البحرية التي تعرضت للأذى جراء المواد البلاستيكية بـ270 فصيلا؛ أكثر من 240 من هذه الفصائل ابتلعت البلاستيك مرة واحدة على الأقل. وينتقل ذلك فيما بعد إلى جسم الإنسان من خلال الأسماك التي يتناولها، خصوصا الأسماك الصغيرة التي تُستهلك كاملة، أو الرخويات بفعل تركز هذه المواد البلاستيكية بجهازها الهضمي. كما تؤثر النفايات على أعشاب البوزودونيا أو الغشاء النباتي من خلال تكون غشاء مليئ بالأوساخ يحجب تسرب الشمس إلى الأعشاب التي تُعدّ محضنة لتفريخ الأسماك وإعطائها الأوكسجين والغذاء، وفق ما أفادت به الباحثة بالمعهد الوطني لعلوم وتكنولوجيا البحار، أسماء حمزة .
هذا الوضع دفع بالبحارة إلى إطلاق صيحة فزع مما اعتبروه تهديدا للكائنات البحرية وتدميرا لجمال المنطقة لافتين إلى أن البحر لم يعد كالسابق حيث تراجعت خيراته وتغيرت رائحته ولونه بعد أن كان يتميز بوجود أنواع من الأسماك تُعرف بجودتها مثل سمك الصبارص وسمك الكرشو بدأت تختفي وقد كان صيدها يحقق مرابيح طائلة لصغار البحارة.
تصدير المنتوجات البحرية مهدد
تكديس النفايات في ميناء صفاقس أضر كذلك بالحركة الإقتصادية فيه، فحسب رئيس نقابة صيد الأعماق بصفاقس، محمد الرقيق فإن ذلك سيدفع بمكتب الغذاء والبيطرة ببروكسال إلى سحب شهادة السلامة الصحية في مجال الصيد البحري المسندة إلى تونس والتي تنتهي صلوحيتها في شهر نوفمبر الحالي، مبينا أنه في صورة قدوم الوفد الأوروبي التابع لهذا المكتب ورؤيته لمصب النفايات القريب من ميناء الصيد البحري بحوالي 10 أمتار فسيتم مباشرة سحب الشهادة مثلما تم سحبها من الجزائر وليبيا حيث تعد تونس الوحيدة في المغرب العربي المتحصلة حاليا عليها.
وتمكّن هذه الشهادة من تسهيل عملية تصدير منتوجات الصيد البحري بعد إثبات مدى سلامة المنتوجات البحرية وجودتها والتأشير عليها من قبل أطباء بياطرة تونسيين مكلفين يتولون معاينة الفضاء الخارجي للميناء والتثبت من مدى سلامة الأحواض ومصبات مصانع المنتوجات البحرية ونظافة محيط إنتاج الأسماك ومحيط رسو مراكب الصيد ورفع تحاليل في الغرض.
وأضاف المصدر ذاته أن عدم تجديد هذه الشهادة التي تُعطى كل 6 أشهر، سيؤثر سلبا على عملية تصدير المنتوجات البحرية والتي قدرت ب 708.1 مليون دينار سنة 2021 وبالتالي ستتوقف عملية الإنتاج التي تساهم، حسب نائب رئيس اتحاد الفلاحة والصيد البحري، بنسبة 60 بالمائة من الإنتاج الوطني المُقدّر ب130 ألف و873 طن سنة 2021 فضلا عن تأمين وظائف ل120 ألف شخص من العاملين المباشرين وغير المباشرين في قطاع الصيد البحري، علما وأن ميناء الصيد البحري بصفاقس يعد ميناء نموذجيا يصل عدد المراكب المعدة للتصدير فيه إلى 130 مركبا، فيما يقدر عدد المصانع المختصة بتصدير منتوجات الصيد البحري بحوالي 29.
رئيس نقابة صيد الأعماق بصفاقس، محمد الرقيق
من جانبه قال رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة والصيد البحري بصفاقس محمد شلاقو إن 70 بالمائة من المنتوجات البحرية التي تصدرها صفاقس تتمثل في أخطبوط البحر والشوابي وجراد البحر والتن مشددا على أنه في صورة سحب شهادة السلامة الصحية فإن ذلك سيكون "كارثة" على تصدير المنتوج البحري والذي يأتي في المرتبة الثالثة على المستوى الوطني بعد تصدير زيت الزيتون.
هذا نموذج عن شهادة السلامة الصحية مدنا بها الإتحاد الجهوي للفلاحة والصيد البحري بصفاقس
مياه الرشح خطر جديد ينضاف..
عدا الأضرار على البحر، فإن تكدس النفايات بآلاف الأطنان في مصب الميناء سيؤدي أيضا إلى تضرر المائدة المائية من خلال إفرازها لمياه الرشح التي تعد أخطر من النفايات ذاتها، حسب ما صرح به الخبير في الموارد المائية، حسين الرحيلي مفسرا أن مياه الرشح هي عصارة النفايات وهي تحتوي على مواد عضوية وغازات من شأنها أن تكون لها تأثيرات سلبية على المحيط والإنسان من قبيل الكربون والهيدروجين والأزوت ومعالجتها تتطلب إمكانيات كبيرة. وبالتالي، فإن تسربها سيؤثر على نوعية المياه وعلى البحر في المرحلة القادمة في ظل غياب آليات لاستيعاب ومعالجة هذه المياه فضلا عن عجز السلطة وعلى رأسها وزارة البيئة على إيجاد حل نهائي لأزمة النفايات في صفاقس.
حلول تزيد الأزمة تعقيدا
تزداد الدعوات الملحة يوما بعد لإيجاد حلول جذرية لإنهاء أزمة النفايات بصفاقس، فأحقية كل مواطن في التمتع والعيش في بيئة سليمة حق يدافع عنه أهالي الولاية بشدة. الأمر الذي دفع بالمجلس الجهوي لولاية صفاقس إلى المصادقة يوم 24 سبتمبر 2022 ب23 صوت "نعم" و 3 أصوات "لا" على مقترحات اللجنة الاستشارية المكلفة بملف النفايات بصفاقس والمتمثلة في إحداث 3 وحدات تثمين نفايات بكل من المنطقة الصناعية سيدي سالم ووسط مدينة صفاقس وبعقار دولي بطريق تنيور كم 20 وعقار دولي بضيعة زروق بالمحرس.
تم التصويت أيضا على إحداث 5 محطات معالجة وقتية للنفايات بمصب القنة بعقارب وعلى قطعة أرض بطريق تونس كم 17 (هبة من الخواص) و قطعة أرض بساقية الدائر (هبة من الخواص ) والعقار الدولي بطريق تنيور كم 20 وقطعة أرض بساقية الزيت على ملك الخواص (هنشير شطورو)، حسبما جاء في محضر الجلسة، فيما صوت رؤساء بلديات عقارب والمحرس والعوابد بالرفض على مقترحات اللجنة الاستشارية لأنها لم تتم بصفة تشاركية ولم يتم تشريك مواطني الجهة في قرار تركيز وحدة تثمين النفايات بمناطقهم.
نسخة عن مقترحات اللجنة
هذه الحلول جوبهت برفض شعبي لإحداث هذه المصبات، حيث قام عدد من أهالي عقارب مساء يوم 24 سبتمبر 2022 بحرق العجلات المطاطية وغلق الطريق رقم 14 الرابطة بين صفاقس وقفصة احتجاجا على قرار والي الجهة إعادة فتح مصب القنة. بدورها أصدرت بلدية عقارب يوم 26 سبتمبر 2022 بيانا أكدت من خلاله تمسكها بقرارها الرافض لإعادة فتح المصب المراقب بالقنة داعية لإيجاد حلول بديلة وكفيلة بإتمام تهيئة واستصلاح المصب قصد غلقه.
الأمر الذي دفع بوالي صفاقس فاخر الفخفاخ إلى الإعلان عن إجراء استفتاء (لم يحدد تاريخه بعد) في معتمدية عقارب حول قرار إعادة الفتح الوقتي لمصب القنة، مبينا أنه سيحترم نتائج هذا الاستفتاء، كما أكد أنه لن يتم اللجوء إلى المعالجة الأمنية ضد المواطنين المحتجين والرافضين لتركيز مصبات ومحطات تثمين نفايات ببعض المناطق، خاصة وأن الاحتجاجات التي شهدتها معتمدية عقارب والرافضة لفتح مصب القنة في نوفمبر 2021 شهدت مواجهات حادة مع الوحدات الأمنية استعمل على إثرها الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين وخراطيش الرشّ لتسفر هذه المواجهات عن وفاة الشاب عبد الرزّاق الأشهب يوم 9 نوفمبر 2021.
جاء ذلك كتبعات لزيارة وزيرة البيئة، ليلى الشيخاوي لصفاقس يوم 7 أكتوبر 2021 وإعلانها استئناف نشاط مصب القنة باعتباره مرفقا عموميا، ثم إعطاء رئيس الجمهورية، قيس سعيد يوم 8 نوفمبر 2021 تعليماته بفتح المصب بالقوة العامة الأمر الذي عمق الاحتجاجات التي استمرت حتى 11 نوفمبر 2021 قبل أن يأمر رئيس الجمهورية في ذات اليوم الوحدات الأمنية بالانسحاب من عقارب.
وفي سياق الرفض الشعبي أيضا لمقترحات والي صفاقس نفذ أهالي معتمدية المحرس وقفة احتجاجية يوم 26 سبتمبر 2022 وأكدوا خلالها أنهم لن يفرطوا في الدفاع عن مستقبل أبنائهم وحقهم في الحياة في بيئة سليمة.
بعد أقل من أسبوع من مصادقة المجلس الجهوي لولاية صفاقس على مقترحات إحداث 3 وحدات تثمين نفايات و 5 محطات معالجة وقتية للنفايات أعلن والي صفاقس، فاخر الفخفاخ، أنه تقرر إعادة النظر في اختيار مواقع تجميع الفضلات الوقتية المعلن عنها في دورة النيابة الخصوصية للمجلس الجهوي المنعقدة يوم 24 سبتمبر 2022 .
وقال الفخفاخ في رسالة فيديو نشرتها الولاية على صفحتها الرسمية مساء يوم 29 من سبتمبر الجاري ، "أن أي اختيار للمواقع يجب أن يتم بالتوافق والتراضي بين كل أبناء الجهة، بعيدا عن التشنج. ودعا إلى لقاءات تشاور وحوار جديدة للبحث عن مواقع أخرى بعيدة عن المناطق السكنية وتحظى بموافقة المواطنين طالبا من أهالي صفاقس التحلي بالصبر لمدة عامين آخرين إلى حين تركيز وحدات لمعالجة النفايات وتثمينها.
من جهته، قال مدير عام البيئة وجودة الحياة بوزارة البيئة، هادي الشبيلي أن وزارة البيئة لا تستطيع فرض مكان لإقامة مصب نفايات بل تتلقى مقترحات من السلط الجهوية في صفاقس وتقوم بدراستها. وشدد على أن الحل لأزمة النفايات يجب أن يكون جماعيا بالشراكة مع السلط الجهوية والمجتمع المدني بالولاية قائلا أن "الوزارة مستعدة لحلول توافقية" وأن "الحل الأنسب هو اختيار موقع جديد والتوجه نحو تثمين النفايات ومعالجتها".
إلا أنه ورغم ما تتميز به وحدات معالجة النفايات وتثمينها من فوائد منها الحفاظ على البيئة والتخلص من النفايات إلا أن إنجازها يستغرق وقتا طويلا ويتطلب على الأقل سنتين لتكون جاهزة وتدخل حيز الاستغلال باعتبار أنها وحدات معالجة وليست مصبات مراقبة. كما أن كلفة وحدة المعالجة الواحدة تتراوح بين 40 و80 مليون دينار، حسب المساحة المخصصة للتثمين وحجم النفايات، والتقنيات المستعملة في ذلك،كما بيّن ذلك عضو اللجنة الإستشارية لمتابعة أزمة النفايات، شفيق العيادي.
من جهته، شدد عضو تنسيقية البيئية والتنمية بصفاقس، حاسم كمون على أنه لا بد من وضع استراتيجية كاملة لرفع الفضلات من المصب بطريقة علمية وتخصيص مكان لها لتثمينها حتى تعود الحياة لهذا المكان باعتباره متنفسا للأهالي خصوصا مع وجود الملاحات بالقرب منه و التي تعد وجهة للتنمية السياحة.
أما وكالة حماية الشريط الساحلي فقد أكدت أنها رفضت منذ البداية التمشي نحو فتح مصب الميناء مؤقتا ولكن الدولة لم تجد حلا آخر ولا بديل لمعالجة أزمة النفايات منذ انطلاق الأزمة وفق ما صرح به مرسي الفقيه، مسؤول الوكالة بصفاقس، مبينا أنه لا يمكن إنكار الآثار البيئية الخطيرة المترتبة عنه مما يستدعي القيام بدراسة دقيقة لمعالجة النفايات بهذا المصب.
إغلاق مصب الميناء وتفاقم الأزمة
تم يوم 31 أكتوبر 2022 غلق مصب الميناء مما أدى إلى تراكم النفايات من جديد في صفاقس والتي بلغت إلى حدود 8 نوفمبر 2022، 1800 طن وتكدست في الشوارع لتخصص ولاية صفاقس مصبا مؤقتا جديدا على ملك الدولة في طريق قرمدة كلم 41 والذي يتوفّر على تجهيزات عزل باعتباره كان في الأصل مصبا للمرجين. وأوضح رئيس اللجنة الاستشارية لإدارة أزمة النفايات بصفاقس، جلال بوزيد أن الموقع سيقع استغلاله لتخزين النفايات لفترة لا تتجاوز 6 أشهر إلى حين تجهيز المصبات المراقبة، لافتا إلى أن الرجوع إلى مصب الميناء "يشكل خطرا على اقتصاد البلاد".
وأضاف بوزيد أن عبئ النفايات يجب أن يتم تقسيمه على مناطق الجهة وبلدياتها ومعتمدياتها، مشيرا إلى أنه تم اعتماد 3 مواقع لتثمين النفايات بتنيور كم 20 وبالمنطقة الصناعية بسيدي سالم وضيعة زروق بالمحرس وهذه المواقع ستكون جاهزة في أجل أقصاه سنتين ونصف حيث تم الانطلاق في العمل في انجاز الدراسات.
قرار تخصيص مصب مؤقت للنفايات بقرمدة، جوبه برفض متساكني المنطقة (المراعنية وماجل الدرج والعوادنة وقصر الريح )حيث نفذوا يوم 9 نوفمبر 2022 وقفة احتجاجية وأغلقوا الطريق الرابطة بين صفاقس والقيروان، مما دفع بوالي صفاقس في اليوم ذاته إلى تعليق قرار تخزين النفايات بهذا المصب حتى يقع التفاهم مع متساكني المنطقة على إمكانية استغلاله.
من يتحمل مسؤولية أزمة النفايات في صفاقس؟
أمام تواصل هذا الوضع، فإن وزارة البيئة تبقى المسؤولة بالدرجة الأولى عن الأزمة لأنها لم تعد استراتيجية واضحة حول البديل لمصب القنة بعقارب وفق تأكيد اللجنة الاستشارية لإدارة أزمة النفايات بصفاقس
وكان وزير البيئة السابق، شكري بن حسن أعلن أن استغلال مصب القنة بعقارب من ولاية صفاقس سينتهي مع حلول سنة 2022 مبينا أن الجهة ستتولى اختيار مكان لمصب جهوي مراقب جديد في اطار تشاركي وتم تخصيص مليون دينار لإنجاز الدراسة ليتم انشاء مصب بمواصفات عالمية تعتمد أحدث تقنيات تثمين الفضلات، إلا أن ما أعلنته الوزارة لم تلتزم به ووجدت نفسها عاجزة عن إعداد بديل لمصب القنة، بل تغير موقفها وتشبثت يوم 16 نوفمبر 2021 بمواصلة استغلاله إلى موفى سنة 2022 خاصة وأنه المصب المراقب الوحيد في ولاية صفاقس، وهو ما رفضه ممثلو "حراك منيش مصب" والأهالي ليتم فيما بعد إحالة الملف إلى وزارة الشؤون الاجتماعية بعد فشل وزارة البيئة في إدارته.. وبتحول المفاوضات إلى وزارة الشؤون الاجتماعية اقترحت في نوفمبر 2021 على نشطاء "حراك منيش مصب" بمعتمدية عقارب استغلال مصب القنة لمدة 14 يوما فقط لرفع النفايات بولاية صفاقس ومن ثم غلقه نهائيا وهذا ما رفضه الحراك واقترحوا أن يتم تجميع النفايات في منطقة تابعة لأراضي الدولة وبعيدة عن المناطق السكنية.
ومع عودة تكدس النفايات بالجهة منذ غرة شهر نوفمبر 2022 ، أذن الوالي برفعها يوم 14 من نفس الشهر وسكبها في مصب بطريق سيدي سالم بمعتمدية طينة من ولاية صفاقس وذلك بمرافقة أمنية. ولكن هذا ليس سوى حل وقتي، سرعان ما ستثبت عدم نجاعته، خاصة إذا ما احتج الأهالي على ذلك. في الأثناء، فإن الوضع البيئي في صفاقس مهدّد بكارثة حقيقية تستوجب حلولاً عاجلة ومستدامة. لكن يبدو أن الأمر ليس بالسهولة المتوقعة ما يعني أنّ الأزمة قد تستمر لسنوات، في ظل غياب استراتيجية شاملة لإدارتها.
بعد نشر التحقيق نشب يوم الثلاثاء 15 نوفمبر صباحا حريق ضخم بمصب الميناء المؤقت الذي تم غلقه يوم 31 أكتوبر 2022 استغرق اخماده ساعات طويلة استمرت حتى فجر يوم الأربعاء 16 نوفمبر 2022 وامتد الدخان المتصاعد منه إلى أغلب أرجاء المدينة ...هذا الحريق كان متوقعا منذ البداية نظرا لتأرجح الأزمة في دائرة الحلول الترقيعية وهو ما خلف حالة من الاحتقان في صفوف الأهالي ومكونات المجتمع المدني التي طالبت بتدخل السلط الجهوية و المركزية بشكل عاجل لحل مشكلة النفايات نهائيا .
تحقيق:بهيرة عوجي
تم إنجاز هذا التحقيق بالتعاون مع منظمة المادة 19