صفاقس بلا ماء..... من المسؤول ؟
وبالعودة إلى التاريخ فإن موضوع توفير المياه في جهة صفاقس مطروح من عدة سنوات بل منذ قرون فقد عرفت منذ التاريخ بأنها قرعة العطش كما أن مواجل الناصرية وعددها 365 على أعداد أيام السنة و التي كانت موجودة خارج السور في مكان معهد مجيدة بوليلة شيدت في عهد الناصر باي ليفتح كل يوم ماجل منها بهدف توفير المياه لسكان المدينة العتيقة وهذا خير دليل على ان صفاقس كانت دائما تعيش على وقع نقص حاد في المياه.
فجهة صفاقس تعيش في وضعية إجهاد مائي أي اقل من 350 متر مكعب في السنة لكل مواطن وهي المعدل الوطني يعني اقل من خط الفقر المائي المحدد ب500 في حين أن المنظمة العالمية للصحة تؤكد أن حاجة المواطن هي الف متر مكعب.
والوضع في صفاقس أكثر تعقيدا نظرا للمعطيات الديمغرافية وقلة الموارد المائية بها فهي تتزود بشكل كبير من مياه الشمال أولا ومن جلمة ثانيا وبنسبة اقل من أبار محلية.
أين تقف مسؤولية الدولة؟
ينص الفصل 44 من الدستور على ان الحق في الماء مضمون ويواصل ليقول "المحافظة على الماء وترشيد استغلاله واجب على الدولة والمجتمع" إذن مسؤولية المحافظة على الماء مشتركة بين الدولة والمجتمع فتحديد مسؤوليات كل طرف مهم في هذه الفترة بالذات
إن المتأمل في الوضعية الحالية لموضوع نقص المياه يتأكد أن التعامل معها لم يكن بقدر خطورة إبعادها الإستراتيجية فالسياسة المائية في تونس كانت سياسة تقدمية في بدايتها من خلال اعتماد إستراتيجية متعددة الأبعاد من حيث التخزين ببناء السدود والتصرف عير إحداث الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه وإعادة الاستعمال ببعث الديوان الوطني للتطهير.
وفي بداية السنوات الألفين بدا الحديث بجدية على النقص الحاد في المياه الموجودة وضعف التحكم في مياه الأمطار كما طرحت مسالة التغييرات المناخية بشكل جدي وكيف انه بحلول سنة 2020 ستعيش تونس الجمهورية وصفاقس تحديدا أزمة مياه عميقة وهو ما دفع الخبراء إلى البحث عن حلول عبر التفكير في بعث وحدات تحلية مياه البحر في كل من جربة والزارات وسوسة وصفاقس إلا أنهم وفي المقابل لم يطورا برامج إضافية لا تقل أهمية على إقامة محطات التحلية.
وهذه الأيام تعيش بلادنا مثل عدد من دول العالم موجة حرارة غير مسبوقة أدت إلى إقبال مهول على استعمال الطاقة مما اثر سلبا على نظم التزويد بالكهرباء
فقدان التصور والفرص الضائعة
لم تستغل تونس بشكل مدروس مشاركاتها المتعددة في المؤتمرات التابعة للأمم المتحدة حول التغييرات المناخية لطرح قضية نقص المياه كقضية حياتية باعتبارها إحدى تبعات التغييرات المناخية وما على المجتمع الدولي الا ان يساعد تونس ضحية هذه التغييرات على تجاوز هذا الإشكال فلا حكومة بن علي ولا حكومات الترويكا ولا حكومات التحالف نداء النهضة تفطنت إلى هذه النقطة وتجندت للدفاع على مصالح تونس في المجال كما لم تتخذ أي إجراء للحد من تفاقم الأزمة حتى لا تصل الى ما وصلت إليه اليوم.
كما أن قدم الشبكة والأعطاب المتعددة فيها او في محطات الضخ ساهم في استفحال الأزمة فكميات مهولة من المياه المعدة للشرب تهدر يوميا لعدة أسباب أهمها قدم الشبكة وغياب الصيانة حيث لم تكن التوجهات العامة في الصيانة استباقية بل هي عمليات تدخل آنية ومرد ذلك غياب إستراتجية وطنية للصيانة في مجال المياه و سياسة التقشف في مصاريف الدولة والتي أثرت بصورة مباشرة على اقتناءات الشركة من قطع الغيار إلى جانب نقص كبير في اليد العاملة المختصة والاستعانة بالمناولة دون أي متابعة وتدقيق في ما أنجز.
كما ان تنامي الطلب على استهلاك الماء في جهة صفاقس في السنوات الأخيرة مرده إلى السياسات التنموية التي ساهمت في نزوح كبير الى الجهة مما أدى الى ارتفاع في الطلب دون أن ننسى جانب التطور الكبير في عدد المساكن والمسابح التي أقيمت في السنوات الأخيرة في الجهة قياسا بالسنوات الماضية.
والى جانب هذين العنصرين هناك عنصر آخر وهو تعدي البعض من المواطنين في جهات تمول صفاقس بالمياه على المنشات المائية بدعوى أحقية جهاتهم بها . فمن جانفي 2011 تعددت التحركات الاحتجاجية للمطالبة بالماء حتى في الجهات التي تستخرج فيها والتي تعيش هي أيضا نقصا فادحا وهكذا شاهدنا تخريبا لبعض الآبار كانت ستوفر الماء وتكسيرا القنوات الناقلة لها والتصدي لفرق الصيانة التابعة للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه هذا في ظل عجز تام للسلطة على تامين هذه المنشات التي تعد حيوية للأمن الغذائي مما سمح بتكرارها دون عقاب.
الماء... والكهرباء ...عنصران متلازمان
يمثل عنصر قطع الطاقة على محطات الضخ من أسباب انقطاع المياه ففي عديد الأحيان تكون هذه الانقطاعات سببا في تقلص كميات المياه الموجهة للجهة فعدم التزود بالطاقة لمحطات الضخ لمدة ساعات يكون وراء انقطاع للمياه ليوم او يومين.
وتعود هذه الانقطاعات بالأساس إلى ارتفاع الطلب بفعل الحرارة المرتفعة من جهة وقلة الصيانة من جهة أخرى إضافة إلى عدم الاستقلالية في إنتاج الطاقة لتامين الحاجيات .
ولتجاوز هذا الإشكال كان من المفروض تجهيز الآبار ومحطات الضخ بمولدات طاقية لا من خلال مولدات تشتغل بالديزل فهي مكلفة بل من خلال استغلال الطاقة الشمسية او الفطوضوئية وهنا نصل الى موضوع تصدي أطراف نقابية في الشركة التونسية للكهرباء والغاز لقضية انتاج الطاقة للحساب الشخصي ووجوب المرور بشبكتها باعتبارها المزود الوحيد للطاقة الكهربائية.
فالمواطنون الذين لهم محطات فوطوضوئية بمنازلهم لا يتمتعون بالكهرباء في حال قامت الشركة التونسية للكهرباء بقطع التيار نظرا للتشريعات الجاري بها العمل ولم تتمكن الحكومات المتعاقبة على تجاوز هذه المعضلة بفعل الضغط النقابي بدعوى التصدي لسياسات الخوصصة التي تريد التخلي على المؤسسات العمومية.
وحسب بعض التسريبات فان شركة الكهرباء والغاز تمارس ضغطا كبيرا على الدولة حتى تكون هي الممول الوحيد لمحطة تحلية المياه المزمع إنشائها في صفاقس في افق سنة 2021 باعتبار ان هذه المحطة ستكون حريفا مهما لها سيدر عليها أموالا طائلة فمحطة تحلية المياه بجربة مثلا تدفع شهريا مليون دينار معلوم استهلاك الكهرباء والحال انه من الاستراتيجي والأمني ان تتولى شركة المياه بنفسها توفير حاجياتها من الطاقة البديلة النظيفة حتى لا تتأثر باعطاب شركة الكهرباء والغاز من جهة وتتوفر الكميات التي كانت هذه المحطات ستستهلكها لبقية الحرفاء في الشبكة.
استخفاف بقضية نقص المياه بصفاقس
لقد تعاملت الدولة منذ سنوات باستخفاف تام مع مشاريع جهة صفاقس فالمعروف إن هذه المشاريع تبقى في الرفوف لسنوات طويلة قبل الشروع في انجازها فجل المشاريع الكبرى في صفاقس لم تنجز في مواعيدها لتساعد على حل الإشكالات المطروحة والتأخير في الانجاز وتطور المعطيات الديمغرافية يجعلها لاتستجيب للواقع الجديد إضافة إلى تضخم تكاليفها بفعل الوقت مما يجبر الدولة على توفير ضعف التمويلات الأولية.
وفي قضية الحال لم تتعامل الحكومات المتعاقبة مع نقص الماء في صفاقس بصفة جدية انطلاقا من خطورة الموقف بل حاولت أن تتعمد على بعض السياسات الترقعية التي لا تساعد على تجاوز المشكل بصفة نهائية فانجاز محطة تحلية المياه في قرقور عرف كغيره من المشاريع بعض التأخير وحسب مصادر بالشركة التونسية لتوزيع المياه فقد استكملت الدراسات وطلبات العروض لتنطلق حسب الرزنامة الأولية في موفى 2019 او بداية سنة 2020 إلا أن البعض يتحدث الان عن سنة 2021 .
تبلغ طاقة محطة تحلية مياه البحر بصفاقس 100 الف متر مكعب في اليوم قابلة للتوسعة الى 200 الف متر مكعب لتستجيب لحاجيات لجهة صفاقس وجهات اخرى مثل سيدي بوزيد، والقيروان، وكل المناطق المعنية بتحويل مياه الشمال، إلى جانب محطة تحلية مياه البحر بقرقنة التي تقدمت دراساتها ويبقى انجازها
مسؤولية مشتركة.
رغم ان نص الفصل 44 يؤكد على دور المجتمع في المحافظة على المياه فان غياب تصور واضح لمساهمته في المحافظة على المياه و ترشيد استهلكها قلص من دوره . وتحديد الأدوار للدولة والمجتمع هو في الحقيقة مسؤولية الدولة فأجهزتها لم تعتن بهذا الموضوع وكان تعاملها مع الملف تعاملا تقنيا بالأساس لكن الواقع يؤكد أن أبعاد الموضوع سياسية ومجتمعية وثقافية وإعلامية وتشريعية فتعامل المواطن مع الماء في غياب الوعي بمدى ندرته تسبب في تبذير كبير وتفاقم للازمة في ظل غياب الحملات التحسيسة التي تساهم فيها اجهزة الدولة التي لها علاقة بالموضوع.
هذه الحملات تمس عادة عدة أوجه من أهمها التشجيع على إقامة المواجل المعروفة بها جهة صفاقس وطرق تجميع مياه الأمطار باعتماد تقنيات جديدة وإصدار التشريعات الأزمة مع الاعتماد على سياسية ردعية ضد كل من يتولى الإسراف في استعمال غير رشيد في الماء .
ان اعتماد سياسة الترفيع في ثمن الماء لن تكون ذات جدوى لا على المستوى القريب ولا على المستوى البعيد ما لم تصاحبها إجراءات أخرى.
القطع مع السياسة القطاعية واعتماد المقاربة المندمجة والحوكمة في مجال المياه أصبح الان من أهم و اوكد الحاجيات.
ولعل بعث وكالة وطنية للمياه تابعة لرئاسة الحكومة تسهر على إعداد وتنفيذ إستراتيجية التعامل مع الماء أصبح ملحا في ظل استفحال أزمة المياه ووجوب العمل على احترام احد فصول الدستور التونسي وهو الحق في الماء .
ويبقى توفير الماء في صلب المحافظة على الأمن القومي للبلاد
حافظ الهنتاتي