الطفولة المتسولة في صفاقس: تفاقم الظاهرة و خفوت المكافحة
وبموازاة هذه العمليات الردعية نلاحظ ازديادا مريبا في المنتمين لهذه الشبكات، و توالدا بائنا في طرق اشتغالها التي تتمحور جلها في استدرار عواطف المارة و ابتزاز نفسياتهم الهشة، ذلك أن أغلبنا لا يرضى أن يرى الهوان و المذلة على تلك الوجوه الكالحة.
بإتباع العدة النظرية الدوركهايمية في التحليل السوسيولوجي(منهج البحث الكمي و الكيفي)، نخلص إلى أمرين إثنين في حال هذه الفئة المجتمعية.
فكميا، يكون المنتمون لفئة المتسولين بصفاقس في أغلبهم من الوافدين على مركز الولاية من مراكز المدن المجاورة و جيوبها الريفية، أما كيفا، فيكون السواد الأعظم منهم من الأطفال القصر الذين لفظتهم عائلاتهم و مدارسهم إلى ميادين التشرد و الإنحراف.
الملفت للإنتباه قي هذا الصدد وجود ظاهرة فرعية بصدد اكتساح، أو لنقل اكتسحت ظاهرة أصلية تعاني منها أغلب المجتمعات التي ذهبت في سياق تمدن وحشي و سعي حثيث وراء الإستزادة المادية بغير شروطها الموضوعية، أي مجتمع سليم بعائلة تنأى عن التفكك و طفولة تنأى عن التشرد.
فهذا الكم المهول من أطفالنا الذي نراهم كل يوم يغادرون أمكنتهم الطبيعية في عائلتهم و مدرستهم إلى منعرجات مرضية كالشوارع و الدور المهجورة، مع ما يوازيها من تجاهل أمني و مؤسساتي لا يمكن أن يشي إلا بارتدادات قادمة، تكون عصية على المجابهة و الإصلاح، و تكون تبعا لذلك مدمرة لصورة المجتمع و بناه الهيكلية .
تشير الإحصاءات الأخيرة الى ان حوالي 40 ألف متسول يجوبون شوارع بلادنا، ويكون لصفاقس نصيب الوصيف منها بعد تونس العاصمة.
نتحدث هنا عن شبكات قوامها الآلاف و يكون الأطفال فيها العنصر الأهم. آلاف الأطفال الذين لفظ بهم الإنقطاع المبكر عن الدراسة و التفكك و العنف الأسريين إلى فك التسول و التشرد، الشيء الذي يعرضهم إلى فقدان مكونهم الأسمى، أي طفولتهم، بفعل ما يتعرضون له من استقطاب ممنهج من قبل شبكات التسول و عصابات الجريمة المنظمة.
و رغم الترسانة التشريعية الهائلة التي تضع من مصلحة الطفل الفضلى أهم مبتغياتها، و رغم الأخبار المتزايدة عن حصر شبكات التسول و مكافحتها، تزداد الولاية كل يوم من وجوه طفولية جديدة تجوب شوارعها و أزقتها و تستظل ببناياتها و مساجدها مادة يديها هنا و هناك لكل من يروح و يغدو.
وهكذا تقف المنظومة التشريعية مع ما يستصحبها من مراكز إصغاء و نجدة تعنى بمسألة الطفولة و دوريات أمنية قارة و متجولة على المستوى التنفيذي، تقف كلها عاجزة عن حسر الظاهرة و مكافحتها. أسئلة عدة يثيرها الطرح السابق، تتمحور كلها عن فاعلية الدور المنوط بعهدة مندوبية حماية الطفولة و قاضي الاسرة و بقية المتدخلين على المستويين المدني الجمعياتي أو الأمني المؤسساتي.
أسئلة تجد لها موطئ قدم أمتن إذا ما وسعنا مناطات الخطر التي تستجلبها ظاهرة الطفولة المتسولة، و نعني بذلك كل الظواهر المستصحبة من تعرض إلى العنف أو قيام به، أو دخول في متاهات اليأس و الإدمان. إن الطرق المعتمدة من قبل مندوبية الطفولة و القائمة على ثنائية "الإشعار فالتحرك" تبدو أمام فداحة الظاهرة حلا قاصرا و غير ذي جدوى، خاصة و أنه رهان أجوف يخلو من الإستباقية و يعطي متنفسا لتجاوزات قد تعاين و لا يتم الإعلام بها.
هنا يبدوا الطريق معبدا لتكليفات مجدية أكثر تمنح للمندوب بخلاف سلطة الضابطة العدلية، سلطة أخرى رقابية و عينية تسخر لفائدتها مختلف المؤسسات الأمنية و القانونية المتدخلة، ما يتيح حسرا أنجزت للكارثة و وقوفا لحظيا على حيثياتها و مجرياتها.
كذلك بالنسبة للرقابة الأمنية، فالظاهرة محتاجة لتجند حاسم يناط برقبته انجاد كل طفل قاصر لا يتلقى رعاية أو دعما عائليا و يجعل له من الشارع مستقرا و من التسول مشغلا. هذا ليس أمرا صعبا أو مستحيلا، و أن نجابه الظاهرة بحدة لا يعني أننا ننكرها أو نتفهها، بل هو منهج قانوني سليم أفقه حسر الهوة بين العدة التشريعية المهولة و الواقع الكارثي الملموس.
لا يجب أن ننسى ختاما الدور الطبيعي المنوط بعهدة العائلة من حيث هي النواة الأصلية للمجتمع. العائلة صورة مصغرة عن المجتمع و تماسكها يعني تماسكا له، و ما الظواهر التي نراها من تشرد و تسول إلا علامات مرضية أصابت العائلة و انتقلت من بعد ذلك إليه.
نحن نحتاج إلى تحقيق مصالحة بين الطفل و طفولته، فالأطفال الذين نراهم بشوارعنا ليس لهم من الطفولة إلا المسمى، أما في مناوراتهم و استراتيجياتهم فهم أقرب للكهولة منهم إلى الطفولة. هذا تحد للمجتمع ككل، نحن في صفاقس أولى الناس بالعمل عليه و المراهنة على إمكانياتنا لمجابهته. محتاجون لفصل الطفولة عن الإنصهار في طرق الإنحراف و الجريمة كخطوة أولى، و محتاجون تبعا لذلك لركن شبكات التسول و التحيل و حرمانها من تشويه المجتمع و تخذيل قواه الحية، و هذا ليس بعزيز على صفاقس و أهلها.
بقلم حمزة بن راشد (استاذ باحث في الانقليزية)