التنمر الرقمي: حين تتحول الشخصية الافتراضية إلى قناع للعنف

من الشتائم العلنية إلى السخرية المنظمة، ومن التصيّد إلى حملات التشويه، أصبحت المنصات الرقمية ساحة صراع نفسي، اجتماعي وسوسيولوجي، تطرح تساؤلات جدية حول طبيعة الإنسان عندما يختبئ خلف "شخصية افتراضية".
الشخصية الافتراضية: عندما يسقط القناع الاجتماعي
في قراءة سوسيولوجية، لا يمكن تجاهل أن الشخصية الافتراضية تُمكّن الأفراد من إعادة تشكيل ذواتهم بعيدًا عن الرقابة المباشرة. في ظل غياب الرقابة المجتمعية الحقيقية على الإنترنت، يتجرد المستخدم من الالتزامات الأخلاقية التي تحكم سلوكه الواقعي، ويظهر على حقيقته... أو على نقيضها تمامًا.
يصبح الفرد أكثر جرأة، وأكثر عدوانية، لأنه يشعر في لاوعيه أنه غير مرئي أو غير مُساءَل. وهنا يسقط "الوعي الاجتماعي"، وتحل محله نزعات فردانية، تكون أحيانًا تدميرية.
التنمر كآلية دفاع نفسي
من الزاوية النفسية، يعتبر الكثير من علماء النفس أن العنف الرقمي تعبير عن صراعات داخلية، فالمتنمّر الرقمي هو غالبًا شخصية تعاني من نقص، إحباط أو رفض مجتمعي في حياته اليومية، فيلجأ إلى "العالم الافتراضي" لتفريغ تلك المشاعر من خلال الهجوم على الآخرين.
وفقًا لمقاربة التحليل النفسي، يمكن اعتبار سلوك المتنمّر نوعًا من الإسقاط: هو لا يهاجمك أنت، بل يهاجم فشلَه، ضعفه، وإحباطه المتراكم.
مجتمع رقمي بلا ضوابط؟
من منظور اجتماعي، لا يمكن فصل التنمر الرقمي عن السياق العام الذي تعيشه المجتمعات، في أوضاع تتسم بالبطالة، الإقصاء، وتراجع القيم التربوية، تصبح الشبكات الاجتماعية فضاءً لتصريف الغضب الجماعي. وهكذا، يتحول الاختلاف في الرأي أو الشكل أو الفكر إلى مبرر للسبّ والشتم .
وهذا ما يجعل التنمر الرقمي أحيانًا شكلاً من أشكال "العنف الطبقي أو الرمزي"، حيث تستهدف الجماهير من تعتبرهم مختلفين أو متفوقين أو ناجحين.
ضحايا في صمت... وألم حقيقي
رغم الطابع "الافتراضي" لهذه الأفعال، فإن تأثيرها واقعي وصادم:
مراهقون يعانون من الاكتئاب.
نساء تتعرضن للتشهير أو الابتزاز.
أطفال ينعزلون عن الدراسة والحياة الاجتماعية.
كل هذه نتائج حقيقية لعنف قد يبدأ بتعليق ساخر... و ينتهي بمأساة.
ما العمل؟ نحو مواطنة رقمية مسؤولة
إن مقاومة العنف الرقمي لا يمكن أن تقتصر على البلاغات الأمنية أو حظر الحسابات. نحن بحاجة إلى:
تشريعات واضحة تحمي الضحايا وتجرّم التنمر الرقمي.
برامج تربية رقمية في المدارس والمعاهد.
حملات توعية جماعية على خطورة "التهجم الافتراضي".
تشجيع منصات التواصل على التدخل الاستباقي ضد المحتوى العنيف.
إن الإنترنت ليس فضاءً خارج القانون... بل هو امتداد لحياتنا اليومية، بكل ما تحمله من مسؤولية وأخلاق.
في النهاية، لا وجود لفصل حقيقي بين الشخصية الافتراضية والحقيقية، إلا إذا اخترنا أن نفصل ضمائرنا عن تصرفاتنا. فاللغة العنيفة على الإنترنت، وإن كانت تُقال بلوحة مفاتيح، فإنها تُجرح بعمق وتُنتج مجتمعًا مشوّهًا بالكلمات قبل الأفعال.
بقلم: مهدي بن عمر
كاتب المقال La rédaction