صفاقس…حين ينجح التلميذ وتخسر المدينة !

ومع ذلك، فإن هذه الجهة، التي تمثل ثاني قوة سكانية واقتصادية في البلاد، ما زالت تراوح في أسفل الترتيب حين يتعلق الأمر بمؤشرات التنمية وجودة الحياة ، إنها مفارقة سوسيولوجية صارخة: مجتمع يُنتج النخبة… في بيئة تنموية متآكلة.
تميز دراسي ناتج عن منظومة اجتماعية صارمة
النجاح المدرسي في صفاقس ليس نتيجة صدفة، بل انعكاس لبنية ثقافية متجذرة، فالعائلة الصفاقسية، بمختلف شرائحها، تتعامل مع التعليم كاستثمار استراتيجي، وغالبًا ما تُراكم رأس مال رمزي وثقافي يمتد عبر الأجيال.
لا يُنظر إلى النجاح في الباكالوريا كمجرد إنجاز فردي، بل كحدث جماعي يُنتظر سنويًا، ويُحتفى به في الأحياء والصفحات المحلية.
يُربَّى التلميذ منذ نعومة أظفاره على تقديس الجهد، وتُحمّل العائلة المدرّسين مسؤولية مضاعفة في الدفع نحو التميز، ما ينتج عنه بيئة تعليمية مشحونة بالانضباط والضغط الإيجابي.
في العمق، يمثل التعليم في صفاقس آلية اجتماعية للتوازن: إذ في غياب ترفيه أو جودة حياة، يصبح التفوق الدراسي هو "الحلم الجماعي الوحيد الممكن"، والنافذة المفتوحة نحو المركز، العاصمة، أو الخارج.
انهيار بطيء في البنية الحضرية والتنموية
في مقابل هذا الازدهار التربوي، تشهد صفاقس تدهورًا واضحًا في مؤشرات التنمية ، فهي تعاني من نقص حاد في البنية التحتية الصحية، غياب مرافق النقل العمومي الحديثة، شح في الفضاءات الثقافية والرياضية، واختناق بيئي بلغ حدود الكارثة، خاصة على الساحل الجنوبي بفعل الصناعات الكيميائية ومصبات النفايات.
المفارقة تصبح أكثر حدّة حين نعلم أن صفاقس تساهم بنسبة تقارب 13% من الناتج المحلي الخام، وتعدّ واحدة من أكبر الجهات المصدرة والمشغلة على المستوى الوطني.
ورغم ذلك، فإن نصيبها من الميزانيات العمومية والمشاريع الاستراتيجية لا يعكس هذا الوزن، مشاريع كبرى ما تزال أسيرة الوعود السياسية المتكررة دون تنفيذ.
التصدير القسري للكفاءات
ما تنتجه صفاقس سنويًا من نخب علمية عالية الكفاءة يتحول إلى رافد لصالح العاصمة أو الخارج، في مشهد أقرب إلى "النزيف الصامت"، فنسبة كبيرة من متفوقي الباكالوريا لا يجدون في ولايتهم فرصًا جامعية ولا آفاقا مهنية ولا بيئة اجتماعية جاذبة، ما يجعل هجرتهم أمرًا حتميًا لا خيارًا، وهو ما يخلق حلقة مغلقة: مجتمع يربي ويعلم ويثقف… فقط ليرى ثماره تُقطف في مكان آخر.
قراءة في عمق المفارقة: بين الدولة والمجتمع
تكشف تجربة صفاقس عن اختلال هيكلي في منوال التنمية الوطني: فهي نموذج لمجتمع يتمتع بكفاءة تنظيم ذاتي عالية (مجتمع مدني نشط، نسيج اقتصادي قوي، ثقافة عمل صارمة)، لكنه لا يحظى بما يكفي من رافعات الدولة.
من جهة أخرى، يمكن قراءة هذه المفارقة كصراع ضمني بين رأس المال الرمزي (العلم، الانضباط، الكفاءة) ورأس المال السياسي (المركزية، التوزيع غير العادل للموارد، غياب الإرادة الحكومية).
ولعل السؤال الحقيقي ليس فقط لماذا تنجح صفاقس في الباكالوريا، بل لماذا تُترك وحيدة في معركتها من أجل البقاء الحضري؟
من تفوق تربوي إلى مشروع جهوي شامل
صفاقس لا تحتاج إلى تهنئة سنوية على نسب النجاح، بقدر ما تحتاج إلى مشروع وطني حقيقي يعيد لها مكانتها كقطب حضري متكامل، لا مجرد "منجم كفاءات" ... .
حين يصبح النجاح الدراسي عملًا جماعيًا، ويظل الفشل التنموي اختيارًا سياسيًا، فإن المفارقة لا تكون فقط صادمة، بل مجحفة.
هل آن الأوان، بعد خمسة عقود من التفوق، أن تنتقل صفاقس من "جهة متفوقة" إلى "جهة فاعلة"، تشارك في صياغة المستقبل بدل الاكتفاء بتصدير الناجحين.
بقلم : مهدي بن عمر