انتخابات 2019 : غابت البرامج فحضرت الشخصنة والتزكيات
فلا غرابة أن تجد دولا رائدة في إقتصاد السوق والمبادرة الفردية والإستثمار لكنها بالتوازي رائدة في سياساتها الإجتماعية والتضامنية من خلال منظومة تغطية صحية وإجتماعية وحوكمة عادلة لتقاسم ثمار التنمية وأنظمة جبائية تقوم على المساواة والتدرج، السويد وسويسرا وكندا تعتبر خير مثال،،، في المقابل تخلت غالبية الدول الشرقية عن موروثها الإشتراكي وإنخرطت تدريجيا في إقتصاد السوق، حيث إكتفت الدولة بدور تعديلي في القطاعات الإستراتيجية وفتحت المجال أمام المبادرة والإستثمار، وطنيا كان أو قادما من وراء البحار، فتحسنت فيها مؤشرات النمو والتنمية ولنا في روسيا والصين وتشيكيا أفضل الأمثلة،،، أفضل الأنظمة اليوم والأكثر نجاعة، هي التي تراوح بين النظامين، فهي من ناحية تشجع على المبادرة الخاصة والإستثمار وتوفر له المناخ والأرضية من إدارة عصرية وإجراءات مختصرة وهياكل تمويل ومرافقة ومنظومة تكوينية تلبي الحاجيات من الكفاءات، دول تحرص بكل الطرق على خلق الثروة وترصد جميع الفرص المتاحة داخل مجالها أو خارجه، وفي المقابل تحرص على تكريس مبادئ المساواة من خلال منظومة جبائية عادلة توجه مداخيلها للإستثمارات العمومية في مجالات الصحة والنقل والتعليم، بطريقة متكافئة بين جميع المواطنين في مختلف الجهات،،، بطبيعة الحال يتم توظيف الموارد بحوكمة تضمن أنجع الإستعمال بكامل الشفافية وفي إطار منظومة محصنة ضد المحسوبية والفساد، يسندها قضاء نزيه ومستقل يستوي الجميع أمامه بقطع النظر عن مراكزهم وألقابهم ونفوذهم الأجتماعي أو السياسي،،، في كل هذا تتنافس الأحزاب حول برامج تتعلق بالسياسة النقدية والجبائية، بالعلاقات الخارجية، يتنافسون حول تصورات لمشاريع إصلاح التعليم أو الصحة، يتنافسون حول أفضل السبل للتحكم في السوق المالية وسعر الصرف ونسب الفائدة في علاقة بالإستهلاك والإستثمار والتنافسية،،، مثال يجسده التنافس الأزلي بين الجمهوريين والديمقراطيين في أمريكا، فكلما إشتدت الأزمة إلا وغادر الحزب الحاكم وعوضه الحزب المقابل حاملا مشروعا إصلاحيا لإعادة الأمور إلى نصابها وإستعادة التوازن،،، في تونس، العاجزة عن التأثير على مجريات الأحداث في العالم، نعيش اليوم نقاشات الثلاثينات بمصطلحات ألغيت في قاموس المعاملات الدولية، عدنا إلى قرون لنتثبت من هويتنا ونعيد قراءتها، نناقش الختان والميراث واللباس، نناقش حدود مفهوم المساواة وعدد الطلقات ومبلغ النفقات،،،، حتى الرئاسية، وبمجرد تقديم بعض الأسماء لترشحاتها انطلقت سريعا التزكيات والمناشدات والشيطنة والتوجيه والاصطفاف، قبل أن يقدموا برامجهم وتصوراتهم، قبل إجراء مناظرات بين المترشحين. في الدول المواطنية يتحدد خيار الناخب ليلة التصويت بعد الاستماع لجميع المترشحين وتقييمهم، فصوت الناخب مسألة مقدسة لا تعطى بتلك السهولة. والنتيجة تشتت منذ اليوم الأول في ديمقراطية مسقطة لم نرتقي بعد إلى أبجدياتها ومبادئها وقيمها،،، انقسمنا بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وانقسم اليمين إلى شطرين، ثم انقسم نصف اليمين إلى شقين، أما اليسار فهو مشتت بين قومي وبعثي وعمالي ووطني ديمقراطي، وما بين اليمين والبسار أحزاب تدعي الاعتدال وهي تترنح يمنة ويسارا ،،، انشطر النقاش بين المحافظين والحداثيين، بين من يعتقد أنه مركز العلمانية ويصور البقية على أنهم منغلقين، وبين من يعتقد أنه مركز التدين ويصور البقية على أنهم منحرفين،،، النتيجة أن العالم، وحتى دول الجوار، يتطورون بنسق جنوني، ونحن ننبش في التاريخ نبحث عن مؤيدات أو أدلة لفرض قراءات جديدة أو إحياء قراءات قديمة،،،، ننبهر بتقدمهم وتطورهم، بعقلياتهم وسلوكياتهم، ببساطتهم وتلقائيتهم،،، لكننا نغمض أعيننا عن الأسباب والمسببات، عن الدوافع والمبررات،،، أفضل مرجعية للأحزاب اليوم هي الواقع بمشاكله ورهاناته ومكامن قوته، حزب تونسي بمرجعية تونسية وبولاء للتونسيات والتونسيين،،، فالحزب الأنجح هو الذي يطور التصور الأنجع لتوظيف الموجود والفرص المتاحة لضمان أمن ورفاهية شعبه،،، هو الحزب الذي يؤسس لخطاب جامع يكفل حق الاختلاف والتعايش في إطار قانون لا يضيق على أحد، يستوعب جميع الحساسيات والإيديولوجيات والثقافات،،، فالحرية هي أفضل وعاء تتعايش فيه جميع الآراء والأفكار والتوجهات، والديمقراطية هي أفضل آلية لحسم الخلافات عبر غالبية الأصوات.
بقلم الناصر البحري