رئاسيات 2019:الثورة البيضاء ... أو ثورة الصندوق
وقبل محاولة تقديم محاولة قراءة النتائج الأولية لانتخابات الدورة الأولى للرئاسية 2019 والتي وصفت نتائجها بالزلزال أشير أولا أن علوم الزلازل تؤكد دائما انه بعد زلزال عنيف هناك ارتدادات تسجل ليس لها في بعض الأحيان نفس القوة وفي أحيان أخرى تكون في نفس القوة والتأثير للزلزال الأول.
الزلزال الأول
رغم كل الاختلافات في التقييم بخصوص ما وقع سنة 2011 فان الإطاحة بن علي كان زلزالا فعليا فقد وظفت الرغبة الخارجية لمزيد تأجيج رفض الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتردية لتغيير رأس النظام التونسي فالقوى الأجنبية كانت تبحث عن تغيير عميق في ليبيا و لا يمكن أن يحدث هذا ما لم يقع تغيير في النظام التونسي. وبالتوازي كان الشعب التونسي يبحث على القطع مع منظومة الحكم في البلاد دون التفطن إلى المرامي الخارجية نظرا لتردي أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية بفعل الأزمة المالية العالمية والعفن السياسي في البلاد وهكذا بحث على تغيير جذري في منظومة الحكم لتحسين أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية فانخرط في الحراك الاجتماعي أملا في إحداث هذا التغيير.
خروج بن علي من الحكم اعتبره البعض نهاية منظومة التي كانت تحكم في البلاد وأدت نتائج 2011 إلى بروز قوى منها من كانت تحلم بالثورة ومنها من كان يحلم بالحكم فقط.
إلا أن ما عرفته انتخابات 2014 من انقسامات أيديولوجية أدى إلى بروز قوتين سياستين تريدان التفرد بالحكم على حساب ما يبطنه المجتمع من انتظارات .
وتمكنت هاتين القوتان من اقتسام الحكم بالمحافظة على كامل المنظومة ولم تترك للحالمين بالثورة مواصلة المشاور ولعل قانون المصالحة هو أحسن تعبير على ذلك.
لقد برز التوافق كطريقة للحكم في تونس بفضل تقارب كل من النهضة والنداء وانخرط في هذا التوجه الذي راعاه الشيخان كل مكونات منظومة الحكم ونعني بها القوى الأخرى مثل النقابات والإعلام وبعض قوى المجتمع المدني وتجلى هذا الانخراط في وثيقة قرطاج الأولى ووثيقة قرطاج الثانية التي كانت لا تحمل تصورات تنموية بقدر ماهي وثيقة تقنية لاقتسام الحكم وهو ما أدى إلى فشلها.
بداية السقوط
لم تقدر المنظومة في شكلها الجديد وفي عمقها القديم على طرح بديل لتصور تنموي غير المعتاد ولم تكن قادرة على ذلك فحاولت الإبقاء على التصورات القديمة فتواصل الشرخ بين تونس المهمشة وتونس المركز والساحل .
ساهم انضمام أصحاب النفوذ المالي الجديد الى دائرة الحكم بحثا عن غطاء له في اكتساح المنظومة سياسيا ونقابيا وفي مجال الاعلام مما أدى الى مزيد تردي الأوضاع الاقتصادية والخدمات الاجتماعية . ومما زاد الازمة استفحالا افراد الاقتصاد الريعي بالأهمية على حساب اقتصاد إنتاج الثروة . فازدهر الاقتصاد غير المنظم واستشرى الفساد في كل مفاصل الدولة .ومما زاد في تردي الوضع تواصل الاقتتال في ليبيا وتقلص حجم المبادلات التجارية معها وهي التي كانت تثمل الرئة الثانية لتونس ذلك في ظل تنامي المطالب بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية وتعطل الة الإنتاج الداخلية وتقلص كبير في مداخيل الفوسفاط بفعل تنامي المطالب النقابية ذات البعد السياسي ويتجلى ذلك في مطالبة الاتحاد العام التونسي للشغل باقتسام السلطة مع بقية السلط الأخرى التشريعية والتنفيذية والقضائية في ظل تفشي عدم المسائلة والمحاسبة برعاية تامة من كل هذه القوى .
القوى الكامنة
لقد ساهمت كل هذه الأوضاع وهشاشة التجربة الديمقراطية في بلادنا والغير مسنودة بنمو اقتصادي يستجيب لتطلعات المواطنين الى ظهور تقسيم جديد للقوى في المجتمع وهي
المتحكمون بالسلطة والمال والإعلام
غير المنتفين بالثروة الوطنية
الحالمون بالثورة والنزاهة
وقد كان في حسبان قوة المتحكمين بالسلطة والثروة والاعلام انها قادرة على التحكم في المجتمع والسيطرة عبر المرور عبر صندوق الاقتراع فوظفت أموالا طائلة لهذا الغرض لكنها اصطدمت بالقوى المجتمعية الأخرى لم يتفطن لها واعتبرتها غير فاعلة خاصة بالنسبة لقوة غير المتفعين بالثروة والتي وجدت في نبيل القوي الناطق باسمها في حين اعتقدت ان الحالمين بالثروة والنزاهة ظاهرة ليس لها جذور مجتمعية وحاولت استمالتها او ضربها
الرافضون للمنظومة
لم تكن تونس استثناءا عالميا بل انها تعيش على نفس ما وقع في العديد من الديمقراطيات التمثلية فانتخابات سبمتير 2019 جاء إجابة عن فشل الديمقراطية التمثلية التي تتحكم فيها قوى المال والإعلام و لم تشذ تونس على ما وقع في عديد البلدان حيث ان القوى الشعبوية و الرافضة للمنظومة هي التي تفوزفي الانتخابات وهي ظاهرة عالمية جديدة وجبت دراستها وهي حسب تقديري ترتقي إلى ما بعد أحداث ماي 1968 بفرنسا
ان اكبر الخاسرين في هذه الانتخابات هي منظومة الحكم برمتها من نخب سياسية وأحزاب ونقابات واعلام والتي وجدت نفسها معاقبة في حين برزت القوتين الأخريين التي ذكرناها في السابق
فالتصويت لقوة غير المنتفعين بالثروة كان تصويتا طبقيا بالأساس استفاد منه نبيل القروي الذي طور على مدى ثلاث سنوات صورة المساند للفقراء والمهمشين الى درجة ان مواطنين لم يلتقوا به ولم ينتفعوا بخدمات جمعية خليل كانوا من أنصاره باعتباره يدافع على الفقراء
اما بالنسبة للمصوتين لقيس سعيد فرغم عدم قيامه بحملة انتخابية كبيرة وظهور بسيط في الإعلام فانه كان يمثل بالنسبة للثوريين والرافضين للفساد والمقسيين من المنظومة الفساد القادر على القطع مع هذه المنظومة وعلى احياء النفس الثوري الذي قبر حسب هؤلاء في عهد الباجي قايد السبسي بعد ان عادت المنظومة الى رسكلة مكوناتها القديمة .
تواصل نفس المسار
مهما كانت التحالفات التي قد تعقدها مكونات المنظومة الحالية رغم اختلافاتها العقائدية الاجتماعية والاقتصادية فان الدور الثاني سيؤكد أنها خرجت من الخدمة وان القوتين الاخريين هي التي ستتحكم في المشهد السياسي مستقبلا وسيكون الفوز لمن يعتقد انه ممثل للفقراء او للطهارة او التنفس الثوري والذي يحمل قناعة القطع مع الفساد وهاتان القوتان تعرض الى نقد لاذع من قبل المنظومة الى حد التجني على الشعب الذي أوصلهما الى هذه المكانة
ان الانتخابات التشريعية القادمة ستؤكد نفس التوجه وستعاقب المنظومة ولن تمتعها بالأغلبية للحكم بل ان التوقعات تفيد بان الناخبين سيذهبون الى اختيار المستقلين ليكونوا الممثلين الشرعيين للشعب وفي الانتخابات البلدية المثال .
وهذا السيناريو هو الأقرب لكن تأثيراته على الحياة السياسية ستكون كبيرة وغير مضمونة وبالعودة الى المجالس البلدية المنتخبة في 2018 فان الاجربة لم تكن موفقة الى حد الان ما لم يقع القطع مع الديمقراطية التمثيلية وتبني مقاربة الديمقراطية التشاركية
الانتخابات التشريعية القادمة ستكون ثورة بيضاء او ثورة أخرى عبر الصندوق بعد ان توفرت للشعب آلية التغيير سلميا عكس ما كان سنة 2011.
حافظ الهنتاتي