رأي: لا تلد تونس كل يوم مفكّرا من حجم هشام جعيط
كان جعيط من طينة مغايرة لهؤلاء المختصين دون اختصاص، والمفكرين دون فكر، البارعين في ربط العلاقات مع الهيئات الدولية لتنظيم الندوات حسب الطلب، وتوفير ما يتيسّر من الأموال على حساب الفكر والعمق.
وقد كان جعيط متميزا منذ بداياته، فكتابه أوروبا والإسلام الذي كتبه وهو في أوج شبابه مثّل لفترة طويلة مرجعا في العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي، كذلك كان كتاب الفتنة الذي نجح فيه في تفكيك حدث كان المنعرج الأكبر في التاريخ الإسلامي الأول، ونجاحه تجسّد في أنه قرأ حدثا خطيرا في التاريخ الإسلامي قراءة بعيدة عن التموقع بين الفريقين المتصارعين، وعن الأيديولوجيا معا. فالعقلانية والمنهجية التاريخية تنفعان في مثل هذه القراءات بعيدا عن سرديات الحنين إلى الماضي التي تتموقع ضمن روايات بعينها ولا تريد الخروج عنها كما هو الأمر في كتب التاريخ التقليدية التي تقوم على الرواية الذاتية لا غير.
ونجح جعيط وهو المختص في التاريخ بالأساس أن يجعل من التاريخ مادة فكرية تُقرأ بسلاسة، لا مادة إخبارية مملّة لا تستطيع أن تخرج عن "العنعنة" وكتب الروايات الأولى، إما خوفا من الخروج "عن الملة" وإما قصورا في توظيف مناهج العلوم الإنسانية في قراءة التاريخ
. تميّزُ جعيط جلب له الانتباه مبكّرا فدرَّس في الأكاديمية الفرنسية collège de Fance الذي لا يدرِّس فيه إلا المفكرون فعلا والمتميزون بما جعله "فلتة" تونسية مبكرة حينها.
كان بورقيبة يستمع في أحد أيام ستينيات القرن الماضي إلى الإذاعة الوطنية عندما لفتت انتباهه مداخلة في إحدى الندوات، سأل عن صاحبها فاعلموه أنه الجامعي الشاب هشام جعيط، سألهم عن قرابته بالشيخ عبد العزيز جعيط الذي كان أحد المساهمين في مضامين مجلة الأحوال الشخصية فتبين انه ابن أخيه.
أعجب بورقيبة بمداخلة جعيط فدعاه إلى حوار بالقصر الرئاسي على مائدة الغداء فكان نقاشا في العمق في التاريخ والفكر، وكانت المرة الأولى التي يلتقي فيها الرجلان، كان بورقيبة يريد أن "يوزر" من يستنجبه كما فعل مع عدد من الجامعيين الذين جلبوا انتباهه لكنه أدرك مع هشام جعيط أن الرجل "راهب فكر" ولا تنفعه المناصب السياسية وهو القرار الذي التزم به جعيط مع ذاته لأنه يرى نفسه مؤرّخا أو مفكّرا في التاريخ وليس مسؤولا سياسيا حتى وإن كان وزيرا. لذلك عاش مفكرا فوق السياسة، وعاش منسيّا في أيامه الأخيرة لأنّ "صنّاع الفكر والمعنى" في السنوات الأخيرة أصبحوا "كرونيكارات" جماعة الميل مع الرياح حيث تميل أو من "الكرونيكوزات" اللاتي يفتين دون معرفة أو عمق معرفي في الحج والعمرة، وصراع علي ومعاوية، وسيف سيدنا علي وراس الغول.
أرجو من السياسيين ألاّ يذكروا الآن هشام جعيط بعد وفاته ويزايدون في جنازته من يذرف الدمع أكثر. لأن دموعهم لن تزيده قيمة، فقيمته معلومة وباقية بما تركه من أثر فكري لا يُمحى.
(القصة حول علاقة جعيط ببورقيبة رواها لي هشام جعيط نفسه في شهر أفريل من سنة الفين أيام قليلة بعد وفاة الزعيم بورقيبة، حين كنت بصدد محاورته ببيته حول علاقة بورقيبة بالإسلام).
تغمده الله بواسع رحمته ورزقه فسيح جناته
ويذكر أن المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط توفي اليوم الثلاثاء 1 جوان 2021، عن عمر يناهز 86 سنة.